كان المعتضد بالله قد خلف بالموصل نصرا القشوري يجبي الأموال ، ويعين العمال على جبايتها ، فخرج عامل معلثايا إليها ومعه جماعة من أصحاب نصر ، فوقع عليهم طائفة من الخوارج ، فاقتتلوا إلى أن أدركهم الليل وفرق بينهم ، وقتل من الخوارج إنسان اسمه جعفر ، وهو من أعيان أصحاب هارون ، فعظم عليه قتله ، وأمر أصحابه بالإفساد في البلاد .
فكتب نصر القشوري إلى هارون الخارجي كتابا يتهدده بقرب الخليفة ، وأنه إن هم به أهلكه وأهلك أصحابه ، وأنه لا يغتر بمن سار إلى حربه فعاد عنه بمكر وخديعة .
فكتب إليه هارون كتابا ، منه : أما ما ذكرت ممن أراد قصدي ، ورجع عني ، فإنهم لما رأوا جدنا ، واجتهادنا كانوا بإذن الله فراشا متتابعا ، ونحن على فرسخ منهم ، وما غرك ، إلا ما أصبت به صاحبنا ، فظننت أن دمه مطلول ، أو أن وتره متروك لك ، كلا إن الله تعالى من ورائك ، وآخذ بناصيتك ، ومعين على إدراك الحق منك ، ولم تعيرنا بغيرك وتدع أن يكون مكان ذلك إبداء صحفتك ، وإظهار عداوتك ؟ وإنا إياك كما قيل :
فلا توعدنا باللقاء وأبرزوا إلينا سوادا نلقه بسواد
ولعمر الله ما ندعو إلى البراز ثقة بأنفسنا ، ولا عن ظن أن الحول والقوة لنا ، لكن [ ص: 485 ] ثقة بربنا ، واعتمادا على جميل عوائده عندنا .
وأما ما ذكرت من أمر سلطانك فإن سلطانك لا يزال منا قريب ، وبحالنا عالما ، ( فلا قدم أجلا ولا أخره ) ، ولا بسط رزقا ، ولا قبضه ، قد بعثنا على مقابلتك ، وستعلم عن قريب إن شاء الله تعالى .
فعرض نصر كتاب هارون على المعتضد ، فجد في قصده ، وولى الحسن بن علي كورة الموصل ، وأمره بقصد الخوارج ، وأمر مقدمي الولايات والعمال كافة بطاعته ، فجمعهم ، وسار إلى أعمال الموصل ، وخندق على نفسه ، وأقام إلى أن رفع الناس غلاتهم ، ثم سار الخوارج ، وعبر الزاب إليهم ، فلقيهم قريبا من المغلة ، وتصافوا للحرب ، فاقتتلوا قتالا شديدا ، وانكشف الخوارج عنه ليفرقوا جمعيته ، ثم يعطفوا عليه ، فأمر الحسن أصحابه بلزوم ( مواقفهم ، ففعلوا ، فرجع الخوارج ، وحملوا عليهم سبع عشرة حملة ، فانكشفت ) ميمنة الحسن ، وقتل من أصحابه ، وثبت هو ، فحمل الخوارج عليه حملة رجل واحد ، فثبت لهم وضرب على رأسه عدة ضربات فلم تؤثر فيه .
فلما رأى أصحابه ثباته تراجعوا إليه وصبروا ، ( فانهزم الخوارج أقبح هزيمة ) ، وقتل منهم خلق كثير ، وفارقوا موضع المعركة ، ودخلوا أذربيجان .
وأما هارون فإنه تحير في أمره ، وقصد البرية ، ( ونزل عند بني تغلب ، ثم عاد معلثايا ، ثم ) عاد إلى البرية ، ثم رجع عبر دجلة إلى حزة ، وعاد إلى البرية .
وأما وجوه أصحابه ، فإنهم لما رأوا إقبال دولة المعتضد وقوته ، وما لحقهم في هذه الوقعة ، راسلوا المعتضد يطلبون الأمان فأمنهم ، فأتاه كثير منهم ، يبلغون ثلاثمائة وستين رجلا ، وبقي معه بعضهم يجول بهم في البلاد ، إلى أن قتل سنة ثلاث وثمانين [ ومائتين ] على ما نذكره .