ذكر
nindex.php?page=treesubj&link=34064وفاة عضد الدولة في هذه السنة ، في شوال ، اشتدت علة
عضد الدولة ، وهو ما كان يعتاده من الصرع فضعفت قوته ( عن دفعه ) ، فخنقه ، فمات منه ثامن شوال
ببغداذ ، وحمل إلى مشهد ( أمير المؤمنين )
علي ، عليه السلام ، فدفن به .
وكانت ولايته
بالعراق خمس سنين ونصفا . ولما توفي جلس ابنه
صمصام الدولة أبو كاليجار للعزاء ، فأتاه
الطائع لله معزيا ، وكان عمر
عضد الدولة سبعا وأربعين سنة . وكان قد سير ولده
شرف الدولة أبا الفوارس إلى
كرمان مالكا لها ، قبل أن يشتد مرضه ، وقيل إنه لما احتضر لم ينطلق لسانه إلا بتلاوة (
nindex.php?page=tafseer&surano=69&ayano=28ما أغنى عني ماليه nindex.php?page=tafseer&surano=69&ayano=29هلك عني سلطانيه ) .
وكان عاقلا ، فاضلا ، حسن السياسة ، كثير الإصابة ، شديد الهيبة ، بعيد الهمة ، ثاقب الرأي ، محبا للفضائل وأهلها ، باذلا في مواضع العطاء ، مانعا في أماكن الحزم ناظرا في عواقب الأمور .
[ ص: 389 ] قيل : لما مات
عضد الدولة بلغ خبره بعض العلماء ، وعنده جماعة من أعيان الفضلاء ، فتذاكروا الكلمات التي قالها الحكماء عند موت
الإسكندر ، وقد ذكرتها في أخباره ، فقال بعضهم : لو قلتم أنتم مثلها لكان ذلك يؤثر عنكم .
فقال أحدهم : لقد وزن هذا الشخص الدنيا بغير مثقالها ، وأعطاها فوق قيمتها ، وطلب الربح فيها فخسر روحه فيها .
وقال الثاني : من استيقظ للدنيا فهذا نومه ، ومن حلم فيها فهذا انتباهه .
وقال الثالث : ما رأيت عاقلا في عقله ، ولا غافلا في غفلته مثله ، لقد كان ينقض جانبا وهو يظن أنه مبرم ، ويغرم وهو يظن أنه غانم .
وقال الرابع : من جد للدنيا هزلت به ، ومن هزل راغبا عنها جدت له .
وقال الخامس : ترك هذا الدنيا شاغرة ، ورحل عنها بلا زاد ولا راحلة .
وقال السادس : إن ماء أطفأ هذه النار لعظيم ، وإن ريحا زعزعت هذا الركن لعصوف .
وقال السابع : إنما سلبك من قدر عليك .
وقال الثامن : أما إنه لو كان معتبرا في حياته لما صار عبرة في مماته .
وقال التاسع : الصاعد في درجات الدنيا إلى استفال ، والنازل في درجاتها إلى تعال .
وقال العاشر : كيف غفلت عن كيد هذا الأمر حتى نفذ فيك ، وهلا اتخذت دونه جنة تقيك ، إن في ذلك لعبرة للمعتبرين ، وإنك لآية للمستبصرين .
وبنى على
مدينة النبي ، صلى الله عليه سلم ، سورا . وله شعر حسن ، فمن شعره لما أرسل إليه
nindex.php?page=showalam&ids=14858أبو تغلب بن حمدان يعتذر من مساعدته
بختيار ، ويطلب الأمان ، فقال
عضد الدولة :
أأفاق حين وطئت ضيق خناقه ، يبغي الأمان وكان يبغي صارما فلأركبن عزيمة عضدية
، تاجية ، تدع الأنوف رواغما
[ ص: 390 ] وقال أبياتا منها بيت لم يفلح بعده ، ( وهي هذه ) :
ليس شرب الكأس إلا في المطر ، وغناء من جوار
في السحر غانيات ، سالبات للنهى ، ناغمات في تضاعيف الوتر
مبرزات الكأس من مطلعها ، ساقيات الراح من فاق البشر
عضد الدولة وابن ركنها ، ملك الأملاك غلاب القدر
وهذا البيت هو المشار إليه .
وحكي عنه أنه كان في قصره جماعة من الغلمان يحمل إليهم مشاهراتهم من الخزانة ، فأمر
أبا نصر خواشاذه أن يتقدم إلى الخازن بأن يسلم جامكية الغلمان إلى نقيبهم في شهر قد بقي منه ثلاثة أيام . قال
أبو نصر : فأنسيت ذلك أربعة أيام ، فسألني
عضد الدولة عن ذلك فقلت : أنسيته فأغلظ لي ، فقلت : أمس استهل الشهر ، والساعة نحمل المال ، وما هاهنا ما يوجب شغل القلب .
فقال : المصيبة بما لا تعلمه من الغلط أكثر منها في التفريط ، ألا تعلم أنا إذا أطلقنا لهم مالهم قبل محله كان الفضل لنا عليهم ، فإذا أخرنا ذلك عنهم ، حتى استهل الشهر الآخر ، حضروا عند عارضهم وطالبوه ، فيعدهم فيحضرونه في اليوم الثاني ، فيعدهم ، ثم يحضرونه في اليوم الثالث ، ( ويبسطون ألسنتهم ) ، فتضيع المنة ، وتحصل الجرأة ، ونكون إلى الخسارة أقرب منا إلى الربح .
وكان لا يعول في الأمور إلا على الكفاة ، ولا يجعل للشفاعات طريقا إلى معارضة من ليس من جنس الشافع ، ولا فيما يتعلق به .
[ ص: 391 ] حكي عنه أن مقدم جيشه
أسفار بن كردويه شفع في بعض أبناء العدول ليتقدم إلى القاضي ليسمع تزكيته ويعدله ، فقال : ليس هذا من أشغالك ، إنما الذي يتعلق بك الخطاب في زيادة قائد ، ونقل مرتبة جندي ، وما يتعلق بهم ، وأما الشهادة وقبولها فهو إلى القاضي وليس لنا ولا لك الكلام فيه ، ومتى عرف القضاة من إنسان ما يجوز معه قبول شهادته ، فعلوا ذلك بغير شفاعة .
وكان يخرج في ابتداء كل سنة شيئا كثيرا من الأموال للصدقة والبر في سائر بلاده ، ويأمر بتسليم ذلك إلى القضاة ووجوه الناس ليصرفوه إلى مستحقيه .
وكان يوصل إلى العمال المتعطلين ما يقوم بهم ويحاسبهم به إذا عملوا .
وكان محبا للعلوم وأهلها ، مقربا لهم ، محسنا إليهم ، وكان يجلس معهم يعارضهم في المسائل ، فقصده العلماء من كل بلد ، وصنفوا له الكتب منها " الإيضاح " في النحو ، و " الحجة " في القراءات ، و " الملكي " في الطب ، و " التاجي " في التاريخ ، إلى غير ذلك ، وعمل المصالح في سائر البلاد كالبيمارستانات والقناطر وغير ذلك من المصالح العامة ، إلا أنه أحدث في آخر أيامه رسوما جائرة في المساحة ، والضرائب على بيع الدواب ، وغيرها من الأمتعة ، وزاد على ما تقدم ، ومنع من عمل الثلج ، والقز ، وجعلهما متجرا للخاص ، وكان يتوصل إلى أخذ المال بكل طريق .
ولما توفي
عضد الدولة قبض على نائبه
أبي الريان من الغد ، فأخذ من كمه رقعة فيها :
أيا واثقا بالدهر عند انصرافه ! رويدك إني بالزمان أخو خبر
ويا شامتا مهلا ، فكم ذي شماتة تكون له العقبى بقاصمة الظهر
ذِكْرُ
nindex.php?page=treesubj&link=34064وَفَاةِ عَضُدِ الدَّوْلَةِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ ، فِي شَوَّالٍ ، اشْتَدَّتْ عِلَّةُ
عَضُدِ الدَّوْلَةِ ، وَهُوَ مَا كَانَ يَعْتَادُهُ مِنَ الصَّرَعِ فَضَعُفَتْ قُوَّتُهُ ( عَنْ دَفْعِهِ ) ، فَخَنَقَهُ ، فَمَاتَ مِنْهُ ثَامِنَ شَوَّالٍ
بِبَغْدَاذَ ، وَحُمِلَ إِلَى مَشْهَدِ ( أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ )
عَلِيٍّ ، عَلَيْهِ السَّلَامُ ، فَدُفِنَ بِهِ .
وَكَانَتْ وِلَايَتُهُ
بِالْعِرَاقِ خَمْسَ سِنِينَ وَنِصْفًا . وَلَمَّا تُوُفِّيَ جَلَسَ ابْنُهُ
صَمْصَامُ الدَّوْلَةِ أَبُو كَالِيجَارَ لِلْعَزَاءِ ، فَأَتَاهُ
الطَّائِعُ لِلَّهِ مُعَزِّيًا ، وَكَانَ عُمْرُ
عَضُدِ الدَّوْلَةِ سَبْعًا وَأَرْبَعِينَ سَنَةً . وَكَانَ قَدْ سَيَّرَ وَلَدَهُ
شَرَفَ الدَّوْلَةِ أَبَا الْفَوَارِسِ إِلَى
كَرْمَانَ مَالِكًا لَهَا ، قَبْلَ أَنْ يَشْتَدَّ مَرَضُهُ ، وَقِيلَ إِنَّهُ لَمَّا احْتُضِرَ لَمْ يَنْطَلِقْ لِسَانُهُ إِلَّا بِتِلَاوَةِ (
nindex.php?page=tafseer&surano=69&ayano=28مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ nindex.php?page=tafseer&surano=69&ayano=29هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ ) .
وَكَانَ عَاقِلًا ، فَاضِلًا ، حَسَنَ السِّيَاسَةِ ، كَثِيرَ الْإِصَابَةِ ، شَدِيدَ الْهَيْبَةِ ، بَعِيدَ الْهِمَّةِ ، ثَاقِبَ الرَّأْيِ ، مُحِبًّا لِلْفَضَائِلِ وَأَهْلِهَا ، بَاذِلًا فِي مَوَاضِعِ الْعَطَاءِ ، مَانِعًا فِي أَمَاكِنِ الْحَزْمِ نَاظِرًا فِي عَوَاقِبِ الْأُمُورِ .
[ ص: 389 ] قِيلَ : لَمَّا مَاتَ
عَضُدُ الدَّوْلَةِ بَلَغَ خَبَرُهُ بَعْضَ الْعُلَمَاءِ ، وَعِنْدَهُ جَمَاعَةٌ مِنْ أَعْيَانِ الْفُضَلَاءِ ، فَتَذَاكَرُوا الْكَلِمَاتِ الَّتِي قَالَهَا الْحُكَمَاءُ عِنْدَ مَوْتِ
الْإِسْكَنْدَرِ ، وَقَدْ ذَكَرْتُهَا فِي أَخْبَارِهِ ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ : لَوْ قُلْتُمْ أَنْتُمْ مِثْلَهَا لَكَانَ ذَلِكَ يُؤْثَرُ عَنْكُمْ .
فَقَالَ أَحَدُهُمْ : لَقَدْ وَزَنَ هَذَا الشَّخْصُ الدُّنْيَا بِغَيْرِ مِثْقَالِهَا ، وَأَعْطَاهَا فَوْقَ قِيمَتِهَا ، وَطَلَبَ الرِّبْحَ فِيهَا فَخَسِرَ رُوحَهُ فِيهَا .
وَقَالَ الثَّانِي : مَنِ اسْتَيْقَظَ لِلدُّنْيَا فَهَذَا نَوْمُهُ ، وَمَنْ حَلَمَ فِيهَا فَهَذَا انْتِبَاهُهُ .
وَقَالَ الثَّالِثُ : مَا رَأَيْتُ عَاقِلًا فِي عَقْلِهِ ، وَلَا غَافِلًا فِي غَفْلَتِهِ مِثْلَهُ ، لَقَدْ كَانَ يَنْقُضُ جَانِبًا وَهُوَ يَظُنُّ أَنَّهُ مُبْرَمٌ ، وَيَغْرَمُ وَهُوَ يَظُنُّ أَنَّهُ غَانِمٌ .
وَقَالَ الرَّابِعُ : مَنْ جَدَّ لِلدُّنْيَا هَزَلَتْ بِهِ ، وَمَنْ هَزَلَ رَاغِبًا عَنْهَا جَدَّتْ لَهُ .
وَقَالَ الْخَامِسُ : تَرَكَ هَذَا الدُّنْيَا شَاغِرَةً ، وَرَحَلَ عَنْهَا بِلَا زَادٍ وَلَا رَاحِلَةٍ .
وَقَالَ السَّادِسُ : إِنَّ مَاءً أَطْفَأَ هَذِهِ النَّارَ لَعَظِيمٌ ، وَإِنَّ رِيحًا زَعْزَعَتْ هَذَا الرُّكْنَ لَعَصُوفٌ .
وَقَالَ السَّابِعُ : إِنَّمَا سَلَبَكَ مَنْ قَدَرَ عَلَيْكَ .
وَقَالَ الثَّامِنُ : أَمَا إِنَّهُ لَوْ كَانَ مُعْتَبِرًا فِي حَيَاتِهِ لَمَا صَارَ عِبْرَةً فِي مَمَاتِهِ .
وَقَالَ التَّاسِعُ : الصَّاعِدُ فِي دَرَجَاتِ الدُّنْيَا إِلَى اسْتِفَالٍ ، وَالنَّازِلُ فِي دَرَجَاتِهَا إِلَى تَعَالٍ .
وَقَالَ الْعَاشِرُ : كَيْفَ غَفَلْتَ عَنْ كَيْدِ هَذَا الْأَمْرِ حَتَّى نَفَذَ فِيكَ ، وَهَلَّا اتَّخَذْتَ دُونَهُ جُنَّةً تَقِيكَ ، إِنَّ فِي ذَلِكَ لِعِبْرَةً لِلْمُعْتَبِرِينَ ، وَإِنَّكَ لَآيَةٌ لِلْمُسْتَبْصِرِينَ .
وَبَنَى عَلَى
مَدِينَةِ النَّبِيِّ ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ سَلَّمَ ، سُورًا . وَلَهُ شِعْرٌ حَسَنٌ ، فَمِنْ شِعْرِهِ لَمَّاَ أَرْسَلَ إِلَيْهِ
nindex.php?page=showalam&ids=14858أَبُو تَغْلِبَ بْنُ حَمْدَانَ يَعْتَذِرُ مِنْ مُسَاعَدَتِهِ
بَخْتِيَارَ ، وَيَطْلُبُ الْأَمَانَ ، فَقَالَ
عَضُدُ الدَّوْلَةِ :
أَأَفَاقَ حِينَ وَطِئْتُ ضَيْقَ خِنَاقِهِ ، يَبْغِي الْأَمَانَ وَكَانَ يَبْغِي صَارِمًا فَلْأَرْكَبَنَّ عَزِيمَةً عَضُدِيَّةً
، تَاجِيَّةً ، تَدَعُ الْأُنُوفَ رَوَاغِمَا
[ ص: 390 ] وَقَالَ أَبْيَاتًا مِنْهَا بَيْتٌ لَمْ يُفْلِحْ بَعْدَهُ ، ( وَهِيَ هَذِهِ ) :
لَيْسَ شُرْبُ الْكَأْسِ إِلَّا فِي الْمَطَرْ ، وَغِنَاءٌ مِنْ جِوَارٍ
فِي السَّحَرْ غَانِيَّاتٍ ، سَالِبَاتٍ لِلنُّهَى ، نَاغِمَاتٍ فِي تَضَاعِيفِ الْوَتَرْ
مُبْرِزَاتِ الْكَأْسِ مِنْ مَطْلَعِهَا ، سَاقِيَاتِ الرَّاحِ مَنْ فَاقَ الْبَشَرْ
عَضُدَ الدَّوْلَةِ وَابْنَ رُكْنِهَا ، مَلِكَ الْأَمْلَاكِ غَلَّابَ الْقَدَرْ
وَهَذَا الْبَيْتُ هُوَ الْمُشَارُ إِلَيْهِ .
وَحُكِيَ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ فِي قَصْرِهِ جَمَاعَةٌ مِنَ الْغِلْمَانِ يَحْمِلُ إِلَيْهِمْ مُشَاهَرَاتِهِمْ مِنَ الْخِزَانَةِ ، فَأَمَرَ
أَبَا نَصْرٍ خُوَاشَاذَهْ أَنْ يَتَقَدَّمَ إِلَى الْخَازِنِ بِأَنْ يُسَلِّمَ جَامَكِيَّةِ الْغِلْمَانِ إِلَى نَقِيبِهِمْ فِي شَهْرٍ قَدْ بَقِيَ مِنْهُ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ . قَالَ
أَبُو نَصْرٍ : فَأُنْسِيتُ ذَلِكَ أَرْبَعَةَ أَيَّامٍ ، فَسَأَلَنِي
عَضُدُ الدَّوْلَةِ عَنْ ذَلِكَ فَقُلْتُ : أُنْسِيتُهُ فَأَغْلَظَ لِي ، فَقُلْتُ : أَمْسِ اسْتَهَلَّ الشَّهْرُ ، وَالسَّاعَةَ نَحْمِلُ الْمَالَ ، وَمَا هَاهُنَا مَا يُوجِبُ شَغْلَ الْقَلْبِ .
فَقَالَ : الْمُصِيبَةُ بِمَا لَا تَعْلَمُهُ مِنَ الْغَلَطِ أَكْثَرُ مِنْهَا فِي التَّفْرِيطِ ، أَلَا تَعْلَمُ أَنَّا إِذَا أَطْلَقْنَا لَهُمْ مَالَهُمْ قَبْلَ مَحَلِّهِ كَانَ الْفَضْلُ لَنَا عَلَيْهِمْ ، فَإِذَا أَخَّرْنَا ذَلِكَ عَنْهُمْ ، حَتَّى اسْتَهَلَّ الشَّهْرُ الْآخَرُ ، حَضَرُوا عِنْدَ عَارِضِهِمْ وَطَالَبُوهُ ، فَيَعِدُهُمْ فَيَحْضُرُونَهُ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي ، فَيَعِدُهُمْ ، ثُمَّ يَحْضُرُونَهُ فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ ، ( وَيَبْسُطُونَ أَلْسِنَتَهُمْ ) ، فَتَضِيعُ الْمِنَّةُ ، وَتَحْصُلُ الْجُرْأَةُ ، وَنَكُونُ إِلَى الْخَسَارَةِ أَقْرَبَ مِنَّا إِلَى الرِّبْحِ .
وَكَانَ لَا يُعَوِّلُ فِي الْأُمُورِ إِلَّا عَلَى الْكُفَاةِ ، وَلَا يَجْعَلُ لِلشَّفَاعَاتِ طَرِيقًا إِلَى مُعَارَضَةِ مَنْ لَيْسَ مِنْ جِنْسِ الشَّافِعِ ، وَلَا فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ .
[ ص: 391 ] حُكِيَ عَنْهُ أَنَّ مُقَدَّمَ جَيْشِهِ
أَسْفَارُ بْنُ كَرْدَوَيْهِ شَفَعَ فِي بَعْضِ أَبْنَاءِ الْعُدُولِ لِيَتَقَدَّمَ إِلَى الْقَاضِي لِيَسْمَعَ تَزْكِيَتَهُ وَيَعْدِلَهُ ، فَقَالَ : لَيْسَ هَذَا مِنْ أَشْغَالِكَ ، إِنَّمَا الَّذِي يَتَعَلَّقُ بِكَ الْخِطَابُ فِي زِيَادَةِ قَائِدٍ ، وَنَقْلِ مَرْتَبَةِ جُنْدِيٍّ ، وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِمْ ، وَأَمَّا الشَّهَادَةُ وَقَبُولُهَا فَهُوَ إِلَى الْقَاضِي وَلَيْسَ لَنَا وَلَا لَكَ الْكَلَامُ فِيهِ ، وَمَتَى عَرَفَ الْقُضَاةُ مِنْ إِنْسَانٍ مَا يَجُوزُ مَعَهُ قَبُولُ شَهَادَتِهِ ، فَعَلُوا ذَلِكَ بِغَيْرِ شَفَاعَةٍ .
وَكَانَ يُخْرِجُ فِي ابْتِدَاءِ كُلِّ سَنَةٍ شَيْئًا كَثِيرًا مِنَ الْأَمْوَالِ لِلصَّدَقَةِ وَالْبِرِّ فِي سَائِرِ بِلَادِهِ ، وَيَأْمُرُ بِتَسْلِيمِ ذَلِكَ إِلَى الْقُضَاةِ وَوُجُوهِ النَّاسِ لِيَصْرِفُوهُ إِلَى مُسْتَحِقِّيهِ .
وَكَانَ يُوصِلُ إِلَى الْعُمَّالِ الْمُتَعَطِّلِينَ مَا يَقُومُ بِهِمْ وَيُحَاسِبُهُمْ بِهِ إِذَا عَمِلُوا .
وَكَانَ مُحِبًّا لِلْعُلُومِ وَأَهْلِهَا ، مُقَرِّبًا لَهُمْ ، مُحْسِنًا إِلَيْهِمْ ، وَكَانَ يَجْلِسُ مَعَهُمْ يُعَارِضُهُمْ فِي الْمَسَائِلِ ، فَقَصَدَهُ الْعُلَمَاءُ مِنْ كُلِّ بَلَدٍ ، وَصَنَّفُوا لَهُ الْكُتُبَ مِنْهَا " الْإِيضَاحُ " فِي النَّحْوِ ، وَ " الْحُجَّةُ " فِي الْقِرَاءَاتِ ، وَ " الْمَلَكِيُّ " فِي الطِّبِّ ، وَ " التَّاجِيُّ " فِي التَّارِيخِ ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ ، وَعَمِلَ الْمَصَالِحَ فِي سَائِرِ الْبِلَادِ كَالْبِيمَارِسْتَانَاتِ وَالْقَنَاطِرِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ ، إِلَّا أَنَّهُ أَحْدَثَ فِي آخِرِ أَيَّامِهِ رُسُومًا جَائِرَةً فِي الْمِسَاحَةِ ، وَالضَّرَائِبِ عَلَى بَيْعِ الدَّوَابِّ ، وَغَيْرِهَا مِنَ الْأَمْتِعَةِ ، وَزَادَ عَلَى مَا تَقَدَّمَ ، وَمَنَعَ مِنْ عَمَلِ الثَّلْجِ ، وَالْقَزِّ ، وَجَعَلَهُمَا مَتْجَرًا لِلْخَاصِّ ، وَكَانَ يَتَوَصَّلُ إِلَى أَخْذِ الْمَالِ بِكُلِّ طَرِيقٍ .
وَلَمَّا تُوُفِّيَ
عَضُدُ الدَّوْلَةِ قَبَضَ عَلَى نَائِبِهِ
أَبِي الرَّيَّانِ مِنَ الْغَدِ ، فَأُخِذَ مِنْ كُمِّهِ رُقْعَةٌ فِيهَا :
أَيَا وَاثِقًا بِالدَّهْرِ عِنْدَ انْصِرَافِهِ ! رُوَيْدَكَ إِنِّي بِالزَّمَانِ أَخُو خُبْرِ
وَيَا شَامِتًا مَهْلًا ، فَكَمْ ذِي شَمَاتَةٍ تَكُونُ لَهُ الْعُقْبَى بِقَاصِمَةِ الظَّهْرِ