[ ص: 197 ] ذكر ملك القسطنطينية من الروم
في هذه السنة ، في شعبان ، ملك الفرنج مدينة القسطنطينية من الروم وأزالوا ملك الروم عنها ، وكان سبب ذلك أن ملك الروم بها تزوج أخت ملك إفرنسيس ، وهو من أكبر ملوك الفرنج فرزق منها ولدا ذكرا ، ثم وثب على الملك أخ له ، فقبض عليه . وملك البلد منه ، وسمل عينيه وسجنه ، فهرب ولده ومضى إلى خاله مستنصرا به على عمه . فاتفق ذلك وقد اجتمع كثير من الفرنج ليخرجوا إلى بلاد الشام لاستنقاذ البيت المقدس من المسلمين ، فأخذوا ولد الملك معهم ، وجعلوا طريقهم على القسطنطينية قصدا لإصلاح الحال بينه وبين عمه ، ولم يكن له طمع في سوى ذلك ، فلما وصلوا خرج عمه في عساكر الروم محاربا لهم ، فوقع القتال بينهم في رجب سنة تسع وتسعين وخمسمائة ، فانهزمت الروم ، ودخلوا البلد فدخله الفرنج معهم ، فهرب ملك الروم إلى أطراف البلاد ، وقيل إن ملك الروم لم يقاتل الفرنج بظاهر البلد وإنما حصروه فيها .
وكان بالقسطنطينية من الروم من يريد الصبي ، فألقوا النار في البلد ، فاشتغل الناس بذلك ، ففتحوا بابا من أبواب المدينة فدخلها الفرنج ، وخرج ملكها هاربا ، وجعل الفرنج الملك في ذلك الصبي ، وليس له من الحكم شيء - وأخرجوا أباه من السجن - إنما الفرنج هم الحكام في البلد ، فثقلوا الوطأة على أهله ، وطلبوا منهم أموالا عجزوا عنها ، وأخذوا أموال البيع وما فيها من ذهب ونقرة وغير ذلك حتى ما على الصلبان وما هو على صورة المسيح - عليه السلام - والحواريين ، وما على الأناجيل من ذلك أيضا ، فعظم ذلك على الروم وحملوا منه خطبا عظيما ، فعمدوا إلى ذلك الصبي الملك فقتلوه ، وأخرجوا الفرنج من البلد ، وأغلقوا الأبواب ، وكان ذلك في جمادى الأولى سنة ستمائة ، فأقام الفرنج بظاهره محاصرين للروم ، وقاتلوهم ولازموا قتالهم ليلا ونهارا ، وكان الروم قد ضعفوا ضعفا كثيرا ، فأرسلوا إلى السلطان ركن الدين سليمان بن قلج أرسلان ، صاحب قونية وغيرها من البلاد ، يستنجدونه ، فلم يجد إلى ذلك سبيلا .
وكان بالمدينة كثير من الفرنج ، مقيمين ، يقاربون ثلاثين ألفا . ولعظم البلد لا يظهر أمرهم ، فتواضعوا هم والفرنج الذين بظاهر البلد ، ووثبوا فيه وألقوا النار مرة ثانية ، فاحترق نحو ربع البلد ، وفتحوا الأبواب فدخلوها ووضعوا السيف ثلاثة أيام ، [ ص: 198 ] وفتكوا بالروم قتلا ونهبا ، فأصبح الروم كلهم ما بين قتيل أو فقير لا يملك شيئا ، ودخل جماعة من أعيان الروم الكنيسة العظمى التي تدعى صوفيا ، فجاء الفرنج إليها ، فخرج إليهم جماعة من القسيسين والأساقفة والرهبان ، بأيديهم الإنجيل والصليب يتوسلون بهما إلى الفرنج ليبقوا عليهم ، فلم يلتفتوا إليهم ، وقتلوهم أجمعين ونهبوا الكنيسة .
وكانوا ثلاثة ملوك : دوقس البنادقة ، وهو صاحب المراكب البحرية ، وفي مراكبه ركبوا إلى القسطنطينية ، وهو شيخ أعمى ، إذا ركب تقاد فرسه ، والآخر يقال له المركيس ، وهو مقدم الإفرنسيس ، والآخر يقال له كند أفلند ، وهو أكثرهم عددا ، فلما استولوا على القسطنطينية اقترعوا على الملك ، فخرجت القرعة على كند أفلند ، فأعادوا القرعة ثانية وثالثة فخرجت عليه ، فملكوه - والله يؤتي ملكه من يشاء ، وينزعه ممن يشاء - ، فلما خرجت القرعة عليه ملكوه عليها وعلى ما يجاورها ، وتكون لدوقس البنادقة الجزائر البحرية مثل جزيرة أقريطش وجزيرة رودس وغيرهما ، ويكون لمركيس الإفرنسيس البلاد التي هي شرقي الخليج مثل أزنيق ولاذيق ، فلم يحصل لأحد منهم شيء غير الذي أخذ القسطنطينية ، وأما الباقي فلم يسلم من به من الروم . وأما البلاد التي كانت لملك القسطنطينية شرقي الخليج المجاورة لبلاد ركن الدين سليمان قلج أرسلان ومن جملتها أزنيق ولاذيق ، فإنها تغلب عليها بطريق كبير من بطارقة الروم اسمه لشكري ، وهي بيده إلى الآن .