المقام الثاني : قالوا : إن الذي يدل على أن وجوه : العلم بعدم الإيمان لا يمنع من وجود الإيمان
أحدها : أنه لو كان كذلك لوجب أن لا يكون الله تعالى قادرا على شيء ؛ لأن الذي علم وقوعه يكون واجب الوقوع ، والذي علم عدم وقوعه يكون ممتنع الوقوع ، والواجب لا قدرة له عليه ؛ لأنه إذا كان واجب الوقوع لا بالقدرة ، فسواء حصلت القدرة أو لم تحصل كان واجب الوقوع ، والذي يكون كذلك لم يكن للقدرة فيه أثر ، وأما الممتنع فلا قدرة عليه ، فيلزم أن لا يكون الله تعالى قادرا على شيء أصلا ، وذلك كفر بالاتفاق فثبت أن العلم بعدم الشيء لا يمنع من إمكان وجوده .
وثانيها : أن العلم يتعلق بالمعلوم على ما هو عليه ، فإن كان ممكنا علمه ممكنا ، وإن كان واجبا علمه واجبا ، ولا شك أن ، فلو صار واجب الوجود بسبب العلم كان العلم مؤثرا في المعلوم ، وقد بينا أنه محال . الإيمان والكفر بالنظر إلى ذاته ممكن الوجود
وثالثها : ؛ لأن الذي علم الله تعالى وقوعه كان واجب الوقوع ، والواجب لا قدرة عليه ؛ والذي علم عدمه كان ممتنع الوقوع ، والممتنع لا قدرة عليه ، فوجب أن لا يكون العبد قادرا على شيء أصلا ، فكانت حركاته وسكناته جارية مجرى حركات الجمادات ، والحركات الاضطرارية للحيوانات ، لكنا بالبديهة نعلم فساد ذلك ، فإن رمى إنسان إنسانا بالآجرة حتى شجه فإنا نذم الرامي ولا نذم الآجرة ، وندرك بالبديهة تفرقة بين ما إذا سقطت الآجرة عليه ، وبين ما إذا لكمه إنسان بالاختيار ، ولذلك فإن العقلاء ببداءة عقولهم يدركون الفرق بين مدح المحسن وذم المسيء ، ويلتمسون ويأمرون ويعاتبون ويقولون : لم فعلت ولم تركت ؟ فدل على أن العلم والخبر غير مانع من الفعل والترك . لو كان الخبر والعلم مانعا لما كان العبد قادرا على شيء أصلا
ورابعها : ، وكما أنه لا يليق به أن يأمر عباده بأن يعدموه فكذلك لا يليق به أن يأمرهم بأن يعدموا علمه ؛ لأن إعدام ذات الله وصفاته غير معقول ، والأمر به سفه وعبث ، فدل على أن العلم بالعدم لا يكون مانعا من الوجود . لو كان العلم بالعدم مانعا للوجود لكان أمر الله تعالى للكافر بالإيمان أمرا بإعدام علمه
وخامسها : أن ، فوجب أن يعلمه الله تعالى من الممكنات الجائزات ؛ إذ لو لم يعلمه كذلك لكان ذلك العلم جهلا ، وهو محال ، وإذا علمه الله تعالى من الممكنات الجائزات التي لا يمتنع وجودها وعدمها البتة ، فلو صار بسبب العلم واجبا لزم أن يجتمع على الشيء الواحد كونه من الممكنات ، وكونه ليس من الممكنات وذلك محال . الإيمان في نفسه من قبيل الممكنات الجائزات نظرا إلى ذاته وعينه
وسادسها : أن ، فلو جاز ورود الشرع به لجاز وروده أيضا بكل أنواع السفه ، فما كان يمتنع وروده بإظهار المعجزة على يد الكاذبين ، ولا إنزال الأكاذيب والأباطيل ، وعلى هذا التقدير لا يبقى وثوق بصحة نبوة الأنبياء ولا بصحة القرآن ، بل يجوز أن يكون كله كذبا وسفها ، ولما بطل ذلك علمنا أن العلم بعدم الإيمان والخبر عن عدم الإيمان لا يمنع من الإيمان . الأمر بالمحال سفه وعبث
وسابعها : أنه لو جاز ورود الأمر بالمحال في هذه الصورة لجاز [ ص: 42 ] ورود أمر الأعمى بنقط المصاحف ، والمزمن بالطيران في الهواء ، وأن يقال لمن قيد يداه ورجلاه وألقي من شاهق جبل : لم لا تطير إلى فوق ؟ ولما لم يجز شيء من ذلك في العقول علمنا أنه لا يجوز الأمر بالمحال ، فثبت أن العلم بالعدم لا يمنع من الوجود .
وثامنها : لو جاز ورود الأمر بذلك لجاز بعثة الأنبياء إلى الجمادات وإنزال الكتب عليها ، وإنزال الملائكة لتبليغ التكاليف إليها حالا بعد حال ، ومعلوم أن ذلك سخرية وتلاعب بالدين .
وتاسعها : أن العلم بوجود الشيء لو اقتضى وجوبه لأغنى العلم عن القدرة والإرادة ، فوجب أن لا يكون الله تعالى قادرا مريدا مختارا ، وذلك قول الفلاسفة القائلين بالموجب .
وعاشرها : الآيات الدالة على أن لم يوجد ، قال الله تعالى : ( تكليف ما لا يطاق لا يكلف الله نفسا إلا وسعها ) [البقرة : 286] وقال : ( وما جعل عليكم في الدين من حرج ) [الحج : 78] وقال : ( ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم ) [الأعراف : 157] وأي حرج ومشقة فوق التكليف بالمحال .