الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الرابعة : في شرح كون السماء بناء ، قال الجاحظ : إذا تأملت في هذا العالم وجدته كالبيت المعد فيه كل ما يحتاج إليه ، فالسماء مرفوعة كالسقف ، والأرض ممدودة كالبساط ، والنجوم منورة كالمصابيح ، والإنسان كمالك البيت المتصرف فيه ، وضروب النبات مهيأة لمنافعه وضروب الحيوانات مصرفة في مصالحه ، فهذه جملة واضحة دالة على أن العالم مخلوق بتدبير كامل وتقدير شامل وحكمة بالغة وقدرة غير متناهية ، والله أعلم . أما قوله تعالى : ( وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم ) فاعلم أن الله تعالى لما خلق الأرض وكانت كالصدف والدرة المودعة فيه آدم وأولاده ، ثم علم الله أصناف حاجاتهم ؛ فكأنه قال : يا آدم لا أحوجك إلى شيء غير هذه الأرض التي هي لك كالأم فقال : ( أنا صببنا الماء صبا ثم شققنا الأرض شقا ) [ عبس : 25 ، 26 ] ، فانظر يا عبدي أن أعز الأشياء عندك الذهب والفضة ، ولو أني خلقت الأرض من الذهب والفضة هل كان يحصل منها هذه المنافع ، ثم إني جعلت هذه الأشياء في هذه الدنيا مع أنها سجن ، فكيف الحال في الجنة ، فالحاصل أن الأرض أمك بل أشفق من الأم ؛ لأن الأم تسقيك لونا واحدا من اللبن ، والأرض تطعمك كذا وكذا لونا من الأطعمة ، ثم قال : ( منها خلقناكم وفيها نعيدكم ) [ طه : 55 ] ، معناه نردكم إلى هذه الأم ، وهذا ليس بوعيد ؛ لأن المرء لا يوعد بأمه ، وذلك لأن مكانك من الأم التي ولدتك أضيق من مكانك من الأرض ، ثم إنك كنت في بطن الأم تسعة أشهر ما مسك جوع ولا عطش ، فكيف إذا دخلت بطن الأم الكبرى ، ولكن الشرط أن تدخل بطن هذه الأم الكبرى ، كما كنت في بطن الأم الصغرى ؛ لأنك حين كنت في بطن الأم الصغرى ما كانت لك زلة ، فضلا عن أن تكون لك كبيرة ، بل كنت مطيعا لله بحيث دعاك مرة إلى الخروج إلى الدنيا فخرجت إليها بالرأس طاعة منك لربك ، واليوم يدعوك سبعين مرة إلى الصلاة فلا تجيبه برجلك .

                                                                                                                                                                                                                                            واعلم أنه سبحانه وتعالى لما ذكر الأرض والسماء بين ما بينهما من شبه عقد النكاح بإنزال الماء من السماء على الأرض والإخراج به من بطنها أشباه النسل الحاصل من الحيوان ، ومن أنواع الثمار رزقا ليتفكروا في أنفسهم وفي أحوال ما فوقهم وما تحتهم ، ويعرفوا أن شيئا من هذه الأشياء لا يقدر على تكوينها وتخليقها إلا من كان مخالفا لها في الذات والصفات ، وذلك هو الصانع الحكيم سبحانه وتعالى .

                                                                                                                                                                                                                                            وههنا سؤالات :

                                                                                                                                                                                                                                            [ ص: 102 ] السؤال الأول : هل تقولون : إن الله تعالى هو الخالق لهذه الثمرات عقيب وصول الماء إليها بمجرى العادة ، أو تقولون : إن الله تعالى خلق في الماء طبيعة مؤثرة ، وفي الأرض طبيعة قابلة ، فإذا اجتمعا حصل الأثر من تلك القوة التي خلقها الله تعالى ؟

                                                                                                                                                                                                                                            والجواب : لا شك أن على كلا القولين لا بد من الصانع الحكيم .

                                                                                                                                                                                                                                            وأما التفصيل فنقول : لا شك أنه تعالى قادر على خلق هذه الثمار ابتداء من غير هذه الوسائط لأن الثمرة لا معنى لها إلا جسم قام به طعم ولون ورائحة ورطوبة ، والجسم قابل لهذه الصفات ، وهذه الصفات مقدورة لله تعالى ابتداء ؛ لأن المصحح للمقدورية إما الحدوث ، أو الإمكان ، وإما هما . وعلى التقديرات فإنه يلزم أن يكون الله تعالى قادرا على خلق هذه الأعراض في الجسم ابتداء بدون هذه الوسائط ، ومما يؤكد هذا الدليل العقلي من الدلائل النقلية ما ورد الخبر بأنه تعالى يخترع نعيم أهل الجنة للمثابين من غير هذه الوسائط ، إلا أنا نقول : قدرته على خلقها ابتداء لا تنافي قدرته عليها بواسطة خلق هذه القوى المؤثرة والقابلة في الأجسام ، وظاهر قول المتأخرين من المتكلمين إنكار ذلك ولا بد فيه من دليل .

                                                                                                                                                                                                                                            السؤال الثاني : لما كان قادرا على خلق هذه الثمار بدون هذه الوسائط فما الحكمة في خلقها بهذه الوسائط في هذه المدة الطويلة ؟

                                                                                                                                                                                                                                            والجواب : يفعل الله ما يشاء ويحكم ما يريد .

                                                                                                                                                                                                                                            ثم ذكروا من الحكم المفصلة وجوها :

                                                                                                                                                                                                                                            أحدها : أنه تعالى إنما أجرى العادة بأن لا يفعل ذلك إلا على ترتيب وتدريج ؛ لأن المكلفين إذا تحملوا المشقة في الحرث والغرس طلبا للثمرات وكدوا أنفسهم في ذلك حالا بعد حال علموا أنهم لما احتاجوا إلى تحمل هذه المشاق لطلب هذه المنافع الدنيوية ، فلأن يتحملوا مشاق أقل من المشاق الدنيوية لطلب المنافع الأخروية التي هي أعظم من المنافع الدنيوية كان أولى ، وصار هذا كما قلنا أنه تعالى قادر على خلق الشفاء من غير تناول الدواء لكنه أجرى عادته بتوقيفه عليه ؛ لأنه إذا تحمل مرارة الأدوية دفعا لضرر المرض ، فلأن يتحمل مشاق التكليف دفعا لضرر العقاب كان أولى .

                                                                                                                                                                                                                                            وثانيها : أنه تعالى لو خلقها دفعة من غير هذه الوسائط لحصل العلم الضروري بإسنادها إلى القادر الحكيم ، وذلك كالمنافي للتكليف والابتلاء . أما لو خلقها بهذه الوسائط فحينئذ يفتقر المكلف في إسنادها إلى القادر إلى نظر دقيق وفكر غامض ، فيستوجب الثواب ، ولهذا قيل : لولا الأسباب لما ارتاب مرتاب .

                                                                                                                                                                                                                                            وثالثها : أنه ربما كان للملائكة ولأهل الاستبصار عبر في ذلك وأفكار صائبة .

                                                                                                                                                                                                                                            السؤال الثالث : قوله : ( وأنزل من السماء ماء ) يقتضي نزول المطر من السماء ، وليس الأمر كذلك ؛ فإن الأمطار إنما تتولد من أبخرة ترتفع من الأرض وتتصاعد إلى الطبقة الباردة من الهواء فتجتمع هناك بسبب البرد وتنزل بعد اجتماعها وذلك هو المطر .

                                                                                                                                                                                                                                            والجواب من وجوه :

                                                                                                                                                                                                                                            أحدها : أن السماء إنما سميت سماء لسموها ، فكل ما سماك فهو سماء ، فإذا نزل من السحاب فقد نزل من السماء .

                                                                                                                                                                                                                                            وثانيها : أن المحرك لإثارة تلك الأجزاء الرطبة من عمق الأرض الأجزاء الرطبة ( وأنزل من السماء ماء ) .

                                                                                                                                                                                                                                            وثالثها : أن قول الله هو الصدق ، وقد أخبر أنه تعالى ينزل المطر من السماء ، فإذا علمنا أنه مع ذلك ينزل من السحاب فيجب أن يقال : ينزل من السماء إلى السحاب ، ومن السحاب إلى الأرض .

                                                                                                                                                                                                                                            السؤال الرابع : ما معنى " من " في قوله : ( من الثمرات ) .

                                                                                                                                                                                                                                            الجواب فيه وجهان :

                                                                                                                                                                                                                                            أحدهما : التبعيض لأن المنكرين - أعني ماء ورزقا - يكتنفانه ، وقد قصد بتنكيرهما معنى البعضية ، فكأنه قيل : وأنزلنا من السماء بعض الماء فأخرجنا به بعض الثمرات ليكون بعض رزقكم .

                                                                                                                                                                                                                                            والثاني : أن يكون للبيان ، كقولك : أنفقت من الدراهم [ ص: 103 ] إنفاقا . فإن قيل : فبم انتصب (رزقا) ؟ قلنا : إن كان (من) للتبعيض كان انتصابه بأنه مفعول له . وإن كانت مبينة كان مفعولا لـ (أخرج) .

                                                                                                                                                                                                                                            السؤال الخامس : الثمر المخرج بماء السماء كثير ، فلم قيل : (الثمرات) دون الثمر أو الثمار ؟

                                                                                                                                                                                                                                            الجواب : تنبيها على قلة ثمار الدنيا وإشعارا بتعظيم أمر الآخرة ، والله أعلم .

                                                                                                                                                                                                                                            أما قوله تعالى : ( فلا تجعلوا لله أندادا وأنتم تعلمون ) ففيه سؤالات .

                                                                                                                                                                                                                                            السؤال الأول : بم تعلق قوله : ( فلا تجعلوا ) ؟

                                                                                                                                                                                                                                            الجواب فيه ثلاثة أوجه :

                                                                                                                                                                                                                                            أحدها : أن يتعلق بالأمر ، أي اعبدوا فلا تجعلوا لله أندادا ؛ فإن أصل العبادة وأساسها التوحيد .

                                                                                                                                                                                                                                            وثانيها : بـ (لعل) والمعنى خلقكم لكي تتقوا وتخافوا عقابه ، فلا تثبتوا له ندا فإنه من أعظم موجبات العقاب .

                                                                                                                                                                                                                                            وثالثها : بقوله : ( الذي جعل لكم الأرض فراشا ) أي هو الذي خلق لكم هذه الدلائل الباهرة فلا تتخذوا له شركاء .

                                                                                                                                                                                                                                            السؤال الثاني : ما الند ؟ الجواب : أنه المثل المنازع ، وناددت الرجل : نافرته ، من ند ندودا : إذا نفر ، كأن كل واحد من الندين يناد صاحبه ، أي ينافره ويعانده . فإن قيل : إنهم لم يقولوا : إن الأصنام تنازع الله . قلنا : لما عبدوها وسموها آلهة أشبهت حالهم حال من يعتقد أنها آلهة قادرة على منازعته ، فقيل لهم ذلك على سبيل التهكم ، وكما تهكم بلفظ الند شنع عليهم بأنهم جعلوا أندادا كثيرة لمن لا يصلح أن يكون له ند قط ، وقرأ محمد بن السميفع : (فلا تجعلوا لله ندا) .

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية