الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            ( المسألة الثالثة ) : احتج المعتزلة على أن الطاعة توجب الثواب فإن في حال ما بشرهم بأن لهم جنات لم يحصل ذلك لهم على طريق الوقوع ، ولما لم يمكن حمل الآية عليه وجب حملها على استحقاق الوقوع ؛ لأنه يجوز التعبير بالوقوع عن استحقاق الوقوع مجازا .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الرابعة : الجنة : البستان من النخل والشجر المتكاثف المظلل بالتفاف أغصانه . والتركيب دائر على معنى الستر وكأنها لتكاثفها وتظليلها سميت بالجنة التي هي المرة من مصدر جنه إذا ستره ، كأنها سترة [ ص: 119 ] واحدة لفرط التفافها ، وسميت دار الثواب جنة لما فيها من الجنان ، فإن قيل : لم نكرت الجنات وعرفت الأنهار ؟ الجواب : أما الأول فلأن الجنة اسم لدار الثواب كلها وهي مشتملة على جنات كثيرة مرتبة مراتب على حسب استحقاقات العاملين ، لكل طبقة منهم جنات من تلك الجنات ، وأما تعريف الأنهار فالمراد به الجنس ، كما يقال : لفلان بستان فيه الماء الجاري والتين والعنب ، يشير إلى الأجناس التي في علم المخاطب ، أو يشار باللام إلى الأنهار المذكورة في قوله : ( فيها أنهار من ماء غير آسن وأنهار من لبن لم يتغير طعمه ) [ محمد : 15 ] .

                                                                                                                                                                                                                                            وأما قوله : ( كلما رزقوا ) فهذا لا يخلو إما أن يكون صفة ثانية لجنات ، أو خبر مبتدأ محذوف ، أو جملة مستأنفة لأنه لما قيل : إن لهم جنات ، لم يخل قلب السامع أن يقع فيه أن ثمار تلك الجنات أشباه ثمار الدنيا أم لا ؟ وههنا سؤالات :

                                                                                                                                                                                                                                            السؤال الأول : ما موقع من ثمرة ؟ الجواب : فيه وجهان :

                                                                                                                                                                                                                                            الأول : هو كقولك : كلما أكلت من بستانك من الرمان شيئا حمدتك ، فموقع (من ثمرة) موقع قولك : من الرمان ، فـ (من) الأولى والثانية كلتاهما لابتداء الغاية ؛ لأن الرزق قد ابتدأ من الجنات والرزق من الجنات قد ابتدأ من ثمرة ، وليس المراد بالثمرة التفاحة الواحدة أو الرمانة الفردة على هذا التفسير ، وإنما المراد النوع من أنواع الثمار .

                                                                                                                                                                                                                                            الثاني : وهو أن يكون (من ثمرة) بيانا على منهاج قولك : رأيت منك أسدا ، تريد أنت أسد ، وعلى هذا يصح أن يراد بالثمرة النوع من الثمرة أو الحبة الواحدة .

                                                                                                                                                                                                                                            السؤال الثاني : كيف يصح أن يقولوا : هذا الذي رزقنا الآن هو الذي رزقنا من قبل ؟

                                                                                                                                                                                                                                            الجواب : لما اتحد في الماهية وإن تغاير بالعدد صح أن يقال : هذا هو ذاك ؛ أي بحسب الماهية فإن الوحدة النوعية لا تنافيها الكثرة بالشخص ، ولذلك إذا اشتدت مشابهة الابن بالأب قالوا : إنه الأب .

                                                                                                                                                                                                                                            السؤال الثالث : الآية تدل على أنهم شبهوا رزقهم الذي يأتيهم في الجنة برزق آخر جاءهم قبل ذلك ، فالمشبه به أهو من أرزاق الدنيا أم من أرزاق الجنة ؟ والجواب فيه وجهان :

                                                                                                                                                                                                                                            الأول : أنه من أرزاق الدنيا ، ويدل عليه وجهان :

                                                                                                                                                                                                                                            الأول : أن الإنسان بالمألوف آنس وإلى المعهود أميل ، فإذا رأى ما لم يألفه نفر عنه طبعه ، ثم إذا ظفر بشيء من جنس ما سلف له به عهد ثم وجده أشرف مما ألفه أولا عظم ابتهاجه وفرحه به ، فأهل الجنة إذا أبصروا الرمانة في الدنيا ثم أبصروها في الآخرة ووجدوا رمانة الجنة أطيب وأشرف من رمانة الدنيا كان فرحهم بها أشد من فرحهم بشيء مما شاهدوه في الدنيا .

                                                                                                                                                                                                                                            والدليل الثاني : أن قوله : ( كلما رزقوا منها ) يتناول جميع المرات ، فيتناول المرة الأولى ، فلهم في المرة الأولى من أرزاق الجنة شيء لا بد وأن يقولوا : هذا الذي رزقنا من قبل ، ولا يكون قبل المرة الأولى شيء من أرزاق الجنة حتى يشبه ذلك به فوجب حمله على أرزاق الدنيا .

                                                                                                                                                                                                                                            القول الثاني : أن المشبه به رزق الجنة أيضا والمراد تشابه أرزاقهم . ثم اختلفوا فيما حصلت المشابهة فيه على وجهين :

                                                                                                                                                                                                                                            الأول : المراد تساوي ثوابهم في كل الأوقات في القدر والدرجة حتى لا يزيد ولا ينقص .

                                                                                                                                                                                                                                            الثاني : المراد تشابهها في المنظر فيكون الثاني كأنه الأول على ما روي عن الحسن . ثم هؤلاء مختلفون فمنهم من يقول : الاشتباه كما يقع في المنظر يقع في المطعم ، فإن الرجل إذا التذ بشيء وأعجب به لا تتعلق به نفسه إلا بمثله ، فإذا جاء ما يشبه الأول من كل الوجوه كان ذلك نهاية اللذة ، ومنهم من يقول : إنه وإن حصل الاشتباه في اللون لكنها تكون مختلفة في الطعم ، قال الحسن : يؤتى أحدهم بالصحفة فيأكل منها ثم يؤتى بالأخرى فيقول : هذا الذي أتينا به من قبل ، فيقول الملك : كل فاللون واحد والطعم [ ص: 120 ] مختلف ، وفي الآية قول ثالث على لسان أهل المعرفة ، وهو أن كمال السعادة ليس إلا في معرفة ذات الله تعالى ومعرفة صفاته ومعرفة أفعاله من الملائكة الكروبية والملائكة الروحانية وطبقات الأرواح وعالم السماوات ، وبالجملة يجب أن يصير روح الإنسان كالمرآة المحاذية لعالم القدس ، ثم إن هذه المعارف تحصل في الدنيا ولا يحصل بها كمال الالتذاذ والابتهاج ، لما أن العلائق البدنية تعوق عن ظهور تلك السعادات واللذات ، فإذا زال هذا العائق حصلت السعادة العظيمة والغبطة الكبرى ، فالحاصل أن كل سعادة روحانية يجدها الإنسان بعد الموت فإنه يقول : هذه هي التي كانت حاصلة لي حين كنت في الدنيا ، وذلك إشارة إلى أن الكمالات النفسانية الحاصلة في الآخرة هي التي كانت حاصلة في الدنيا إلا أنها في الدنيا ما أفادت اللذة والبهجة والسرور ، وفي الآخرة أفادت هذه الأشياء لزوال العائق .

                                                                                                                                                                                                                                            أما قوله : ( وأتوا به متشابها ) ففيه سؤالان :

                                                                                                                                                                                                                                            السؤال الأول : إلام يرجع الضمير في قوله : ( وأتوا به ) ؟ الجواب : إن قلنا : المشبه به هو رزق الدنيا ، فإلى الشيء المرزوق في الدنيا والآخرة ، يعني أتوا بذلك النوع متشابها يشبه الحاصل منه في الآخرة ما كان حاصلا منه في الدنيا ، وإن قلنا : المشبه به هو رزق الجنة أيضا ، فإلى الشيء المرزوق في الجنة ، يعني أتوا بذلك النوع في الجنة بحيث يشبه بعضه بعضا .

                                                                                                                                                                                                                                            السؤال الثاني : كيف موقع قوله : ( وأتوا به متشابها ) من نظم الكلام ؟ والجواب : أن الله تعالى لما حكى عن أهل الجنة ادعاء تشابه الأرزاق في قوله : ( قالوا هذا الذي رزقنا من قبل ) فالله تعالى صدقهم في تلك الدعوة بقوله : ( وأتوا به متشابها ) .

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية