الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الثالثة : من الناس من تمسك بقوله تعالى : ( أنبئوني بأسماء هؤلاء ) على جواز تكليف ما لا يطاق وهو ضعيف ؛ لأنه تعالى إنما استنبأهم مع علمه تعالى بعجزهم على سبيل التبكيت ، ويدل على ذلك قوله تعالى : ( إن كنتم صادقين ) .

                                                                                                                                                                                                                                            [ ص: 163 ] المسألة الرابعة : قالت المعتزلة : إن ما ظهر من آدم عليه السلام من علمه بالأسماء معجزة دالة على نبوته عليه السلام في ذلك الوقت ، والأقرب أنه كان مبعوثا إلى حواء ، ولا يبعد أيضا أن يكون مبعوثا إلى من توجه التحدي إليهم من الملائكة ؛ لأن جميعهم وإن كانوا رسلا فقد يجوز الإرسال إلى الرسول كبعثة إبراهيم عليه السلام إلى لوط عليه السلام ، واحتجوا عليه بأن حصول ذلك العلم له ناقض للعادة ، فوجب أن يكون معجزا ، وإذا ثبت كونه معجزا ثبت كونه رسولا في ذلك الوقت ، ولقائل أن يقول لا نسلم أن ذلك العلم ناقض للعادة ؛ لأن حصول العلم باللغة لمن علمه تعالى ، وعدم حصوله لمن لم يعلمه الله ليس بناقض للعادة ، وأيضا فإما أن يقال : الملائكة علموا كون تلك الأسماء موضوعة لتلك المسميات أو ما علموا ذلك ، فإن علموا ذلك فقد قدروا على أن يذكروا أسماء تلك المسميات ، فحينئذ تحصل المعارضة ولا تظهر المزية والفضيلة ، وإن لم يعلموا ذلك فكيف عرفوا أن آدم عليه السلام أصاب فيما ذكر من كون كل واحد من تلك الألفاظ اسما لكل واحد من تلك المسميات ؟

                                                                                                                                                                                                                                            واعلم أنه يمكن دفع هذا السؤال من وجهين :

                                                                                                                                                                                                                                            الأول : ربما كان لكل صنف من أصناف الملائكة لغة من هذه اللغات ، وكان كل صنف جاهلا بلغة الصنف الآخر ، ثم إن جميع أصناف الملائكة حضروا ، وإن آدم عليه السلام عد عليهم جميع تلك اللغات بأسرها ، فعرف كل صنف إصابته في تلك اللغة خاصة ، فعرفوا بهذا الطريق صدقه إلا أنهم بأسرهم عجزوا عن معرفة تلك اللغات بأسرها ، فكان ذلك معجزا .

                                                                                                                                                                                                                                            الثاني : لا يمتنع أن يقال : إنه تعالى عرفهم قبل أن يسمعوا من آدم عليه السلام تلك الأسماء ما استدلوا به على صدق آدم ، فلما سمعوا منه عليه السلام تلك الأسماء عرفوا صدقه فيها ، فعرفوا كونه معجزا ، سلمنا أنه ظهر عليه فعل خارق للعادة فلم لا يجوز أن يكون ذلك من باب الكرامات ، أو من باب الإرهاص وهما عندنا جائزان ، وحينئذ يصير الكلام في هذه المسألة فرعا على الكلام فيهما ، واحتج من قطع بأنه عليه السلام ما كان نبيا في ذلك الوقت بوجوه :

                                                                                                                                                                                                                                            أحدها : أنه لو كان نبيا في ذلك الزمان لكان قد صدرت المعصية عنه بعد النبوة ، وذلك غير جائز ، فوجب أن لا يكون نبيا في ذلك الزمان ، أما الملازمة فلأن صدور الزلة عنه كان بعد هذه الواقعة بالاتفاق ، وتلك الزلة من باب الكبائر على ما سيأتي شرحه إن شاء الله تعالى ، والإقدام على الكبيرة يوجب استحقاق الطرد والتحقير واللعن ، وكل ذلك على الأنبياء غير جائز فيجب أن يقال : وقعت تلك الواقعة قبل النبوة .

                                                                                                                                                                                                                                            وثانيها : لو كان رسولا في ذلك الوقت لكان إما أن يكون مبعوثا إلى أحد أو لا يكون ، فإن كان مبعوثا إلى أحد ، فإما أن يكون مبعوثا إلى الملائكة أو الإنس أو الجن ، والأول باطل ؛ لأن الملائكة عند المعتزلة أفضل من البشر ، ولا يجوز جعل الأدون رسولا إلى الأشرف ؛ لأن الرسول [قائد] والأمة تبع ، وجعل الأدون متبوع الأشرف خلاف الأصل ، وأيضا فالمرء إلى قبول القول ممن هو من جنسه أمكن ؛ ولهذا قال تعالى : ( ولو جعلناه ملكا لجعلناه رجلا ) [الأنعام : 9] ولا جائز أن يكون مبعوثا إلى البشر ؛ لأنه ما كان هناك أحد من البشر إلا حواء ، وإن حواء إنما عرفت التكليف لا بواسطة آدم ؛ لقوله تعالى : ( ولا تقربا هذه الشجرة ) [البقرة : 35] شافههما بهذا التكليف ، وما جعل آدم واسطة ، ولا جائز أن يكون مبعوثا إلى الجن ؛ لأنه ما كان في السماء أحد من الجن ، ولا جائز أيضا أن يكون مبعوثا إلى أحد ؛ لأن المقصود من جعله رسولا التبليغ فحيث لا مبلغ لم يكن [ ص: 164 ] في جعله رسولا فائدة ، وهذا الوجه ليس في غاية القوة .

                                                                                                                                                                                                                                            وثالثها : قوله تعالى : ( ثم اجتباه ربه ) [طه : 122] فهذه الآية دلت على أنه تعالى إنما اجتباه بعد الزلة فوجب أن يقال : إنه قبل الزلة ما كان مجتبى ، وإذا لم يكن ذلك الوقت مجتبى وجب أن لا يكون رسولا ؛ لأن الرسالة والاجتباء متلازمان ؛ لأن الاجتباء لا معنى له إلا التخصيص بأنواع التشريفات ، وكل من جعله الله رسولا فقد خصه بذلك ؛ لقوله تعالى : ( الله أعلم حيث يجعل رسالته ) [الأنعام : 124] .

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية