الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            ( المسألة الثامنة ) : الرزق في كلام العرب هو الحظ ، قال تعالى : ( وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون ) [الواقعة : 82] أي حظكم من هذا الأمر ، والحظ هو نصيب الرجل وما هو خاص له دون غيره ، ثم قال بعضهم : الرزق كل شيء يؤكل أو يستعمل ، وهو باطل ، لأن الله تعالى أمرنا بأن ننفق مما رزقنا ، فقال : ( وأنفقوا من ما رزقناكم ) [المنافقون : 10] فلو كان الرزق هو الذي يؤكل لما أمكن إنفاقه . وقال آخرون : الرزق هو ما يملك وهو أيضا باطل ، لأن الإنسان قد يقول : اللهم ارزقني ولدا صالحا ، أو زوجة صالحة ، وهو لا يملك الولد ولا الزوجة ، ويقول : اللهم ارزقني عقلا أعيش به ، وليس العقل بمملوك ، وأيضا البهيمة يكون لها رزق ، ولا يكون لها ملك . وأما في عرف الشرع فقد اختلفوا فيه ، فقال أبو الحسين البصري : الرزق هو تمكين الحيوان من الانتفاع بالشيء والحظر على غيره أن يمنعه من الانتفاع به ، فإذا قلنا : قد رزقنا الله تعالى الأموال ، فمعنى ذلك أنه مكننا من الانتفاع بها ، وإذا سألناه تعالى أن يرزقنا مالا فإنا نقصد بذلك أن يجعلنا بالمال أخص ، وإذا سألناه أن يرزق البهيمة فإنا نقصد بذلك أن يجعلها به أخص ، وإنما تكون به أخص إذا مكنها من الانتفاع به ، ولم يكن لأحد أن يمنعها من الانتفاع به ، واعلم أن المعتزلة لما فسروا الرزق بذلك لا جرم قالوا : الحرام لا يكون رزقا . وقال أصحابنا : الحرام قد يكون رزقا ، فحجة الأصحاب من وجهين .

                                                                                                                                                                                                                                            الأول : أن الرزق في أصل اللغة هو الحظ والنصيب على ما بيناه ، فمن انتفع بالحرام فذلك الحرام صار حظا ونصيبا ، فوجب أن يكون رزقا له . الثاني : أنه تعالى قال : ( وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها ) [هود : 6] وقد يعيش الرجل طول عمره لا يأكل إلا من السرقة ، فوجب أن يقال : إنه طول عمره لم يأكل من رزقه شيئا . أما المعتزلة فقد احتجوا بالكتاب والسنة والمعنى . أما الكتاب فوجوه :

                                                                                                                                                                                                                                            أحدها قوله [ ص: 29 ] تعالى : ( ومما رزقناهم ينفقون ) مدحهم على الإنفاق مما رزقهم الله تعالى ، فلو كان الحرام رزقا لوجب أن يستحقوا المدح إذا أنفقوا من الحرام ، وذلك باطل بالاتفاق .

                                                                                                                                                                                                                                            وثانيها : لو كان الحرام رزقا لجاز أن ينفق الغاصب منه ، لقوله تعالى : ( وأنفقوا من ما رزقناكم ) [المنافقون : 10] وأجمع المسلمون على أنه لا يجوز للغاصب أن ينفق مما أخذه بل يجب عليه رده ، فدل على أن الحرام لا يكون رزقا .

                                                                                                                                                                                                                                            وثالثها : قوله تعالى : ( قل أرأيتم ما أنزل الله لكم من رزق فجعلتم منه حراما وحلالا قل آلله أذن لكم ) [يونس : 59] فبين أن من حرم رزق الله فهو مفتر على الله ، فثبت أن الحرام لا يكون رزقا ، وأما السنة فما رواه أبو الحسين في كتاب الغرر بإسناده عن صفوان بن أمية ، قال : كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ جاءه عمرو بن قرة ، فقال له : يا رسول الله ، إن الله كتب علي الشقوة ، فلا أراني أرزق إلا من دفي بكفي ، فائذن لي في الغناء من غير فاحشة ، فقال عليه السلام : " لا إذن لك ، ولا كرامة ، ولا نعمة ، كذبت أي عدو الله ، لقد رزقك الله رزقا طيبا ، فاخترت ما حرم الله عليك من رزقه مكان ما أحل الله لك من حلاله ، أما إنك لو قلت بعد هذه المقدمة شيئا ضربتك ضربا وجيعا " وأما المعنى فإن الله تعالى منع المكلف من الانتفاع بالحرام ، وأمر غيره بمنعه من الانتفاع به ، ومن منع من أخذ الشيء والانتفاع به لا يقال إنه رزقه إياه ، ألا ترى أنه لا يقال : إن السلطان قد رزق جنده مالا قد منعهم من أخذه ، وإنما يقال : إنه رزقهم ما مكنهم من أخذه ، ولا يمنعهم منه ، ولا أمر بمنعهم منه ، أجاب أصحابنا عن التمسك بالآيات بأنه وإن كان الكل من الله ، لكنه كما يقال : يا خالق المحدثات والعرش والكرسي ، ولا يقال : يا خالق الكلاب والخنازير ، وقال : ( عينا يشرب بها عباد الله ) [الإنسان : 6] فخص اسم العباد بالمتقين ، وإن كان الكفار أيضا من العباد ، وكذلك ههنا خص اسم الرزق بالحلال على سبيل التشريف ، وإن كان الحرام رزقا أيضا ، وأجابوا عن التمسك بالخبر بأنه حجة لنا ، لأن قوله عليه السلام : " فاخترت ما حرم الله عليك من رزقه " صريح في أن الرزق قد يكون حراما ، وأجابوا عن المعنى بأن هذه المسألة محض اللغة ، وهو أن الحرام هل يسمى رزقا أم لا ؟ ولا مجال للدلائل العقلية في الألفاظ ، والله أعلم .

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية