الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الرابعة : اعلم أنه سبحانه وتعالى ذكر ههنا أنه جعل الأرض فراشا ، ونظيره قوله : ( أمن جعل الأرض قرارا وجعل خلالها أنهارا ) [ النمل : 61 ] ، وقوله : ( الذي جعل لكم الأرض مهدا ) [ طه : 53 ، الزخرف : 10 ] ، واعلم أن كون الأرض فراشا مشروط بأمور :

                                                                                                                                                                                                                                            الشرط الأول : كونها ساكنة ، وذلك لأنها لو كانت متحركة لكانت حركتها إما بالاستقامة أو بالاستدارة ، فإن كانت بالاستقامة لما كانت فراشا لنا على الإطلاق لأن من طفر من موضع عال كان يجب أن لا يصل إلى الأرض لأن الأرض هاوية ، وذلك الإنسان هاو ، والأرض أثقل من الإنسان ، والثقيلان إذا نزلا كان أثقلهما أسرعهما والأبطأ لا يلحق الأسرع ، فكان يجب أن لا يصل الإنسان إلى الأرض فثبت أنها لو كانت هاوية لما كانت فراشا .

                                                                                                                                                                                                                                            أما لو كانت حركتها بالاستدارة لم يكمل انتفاعنا بها ؛ لأن حركة الأرض مثلا إذا كانت إلى المشرق والإنسان يريد أن يتحرك إلى جانب المغرب ولا شك أن حركة الأرض أسرع ، فكان يجب أن يبقى الإنسان على مكانه وأنه لا يمكنه الوصول إلى حيث يريد ، فلما أمكنه ذلك علمنا أن الأرض غير متحركة لا بالاستدارة ولا بالاستقامة فهي ساكنة .

                                                                                                                                                                                                                                            ثم اختلفوا في سبب ذلك السكون على وجوه :

                                                                                                                                                                                                                                            أحدها : أن الأرض لا نهاية لها من جانب السفل ، وإذا كان كذلك لم يكن لها مهبط فلا تنزل ، وهذا فاسد لما ثبت بالدليل تناهي الأجسام .

                                                                                                                                                                                                                                            وثانيها : الذين سلموا تناهي الأجسام قالوا : الأرض ليست كرة بل هي كنصف كرة وحدبتها فوق وسطحها أسفل ، وذلك السطح موضوع على الماء والهواء ، ومن شأن الثقيل إذا انبسط أن يندغم على الماء والهواء مثل الرصاصة فإنها إذا انبسطت طفت على الماء ، وإن جمعت رسبت . وهذا باطل لوجهين : الأول : أن البحث عن سبب وقوف الماء والهواء كالبحث عن سبب وقوف الأرض . والثاني : لم صار ذلك الجانب من الأرض منبسطا حتى وقف على الماء وصار هذا الجانب متحدبا ؟

                                                                                                                                                                                                                                            وثالثها : الذين قالوا : سبب سكون الأرض جذب الفلك لها من كل الجوانب ، فلم يكن انجذابها إلى بعض الجوانب أولى من بعض فبقيت في الوسط . وهذا باطل لوجهين : الأول : أن الأصغر أسرع انجذابا من الأكبر ، فما بال الذرة لا تنجذب إلى الفلك . الثاني : الأقرب أولى بالانجذاب فالذرة المقذوفة إلى فوق أولى بالانجذاب وكان يجب أن لا تعود .

                                                                                                                                                                                                                                            ورابعها : قول من جعل سبب سكونها دفع الفلك لها من كل الجوانب ، كما إذا جعل شيء من التراب في قنينة ثم أديرت القنينة على قطبها إدارة سريعة ، فإنه يقف التراب في وسط القنينة لتساوي الدفع من كل الجوانب . وهذا أيضا باطل من وجوه خمسة :

                                                                                                                                                                                                                                            الأول : الدفع إذا بلغ في القوة إلى هذا الحد فلم لا يحس به الواحد منا ؟ .

                                                                                                                                                                                                                                            الثاني : ما بال هذا الدفع لا يجعل حركة السحب والرياح إلى جهة بعينها . الثالث : ما باله لم يجعل انتقالها إلى المغرب أسهل من انتقالها إلى المشرق . الرابع : يجب أن يكون الثقيل كلما كان [ ص: 95 ] أعظم أن تكون حركته أبطأ ؛ لأن اندفاع الأعظم من الدافع القاسر ، أبطأ من اندفاع الأصغر . الخامس : يجب أن تكون حركة الثقيل النازل من الابتداء أسرع من حركته عند الانتهاء ؛ لأنه عند الابتداء أبعد من الفلك .

                                                                                                                                                                                                                                            وخامسها : أن الأرض بالطبع تطلب وسط الفلك ، وهو قول أرسطاطاليس وجمهور أتباعه ، وهذا أيضا ضعيف ؛ لأن الأجسام متساوية في الجسمية ، فاختصاص البعض بالصفة التي لأجلها تطلب تلك الحالة لا بد وأن يكون جائزا ، فيفتقر فيه إلى الفاعل المختار .

                                                                                                                                                                                                                                            وسادسها : قال أبو هاشم : النصف الأسفل من الأرض فيه اعتمادات صاعدة ، والنصف الأعلى فيه اعتمادات هابطة ، فتدافع الاعتمادان فلزم الوقوف . والسؤال عليه : أن اختصاص كل واحد من النصفين بصفة مخصوصة لا يمكن إلا بالفاعل المختار . فثبت بما ذكرنا أن سكون الأرض ليس إلا من الله تعالى .

                                                                                                                                                                                                                                            وعند هذا نقول : انظر إلى الأرض لتعرف أنها مستقرة بلا علاقة فوقها ولا دعامة تحتها ، أما أنها لا علاقة فوقها فمشاهد ، على أنها لو كانت معلقة بعلاقة لاحتاجت العلاقة إلى علاقة أخرى لا إلى نهاية ، وبهذا الوجه ثبت أنه لا دعامة تحتها فعلمنا أنه لا بد من ممسك يمسكها بقدرته واختياره ، ولهذا قال الله تعالى : ( إن الله يمسك السماوات والأرض أن تزولا ولئن زالتا إن أمسكهما من أحد من بعده ) [ فاطر : 41 ] .

                                                                                                                                                                                                                                            الشرط الثاني في كون الأرض فراشا لنا : أن لا تكون في غاية الصلابة كالحجر ، فإن النوم والمشي عليه مما يؤلم البدن ، وأيضا فلو كانت الأرض من الذهب مثلا لتعذرت الزراعة عليها ، ولا يمكن اتخاذ الأبنية منه لتعذر حفرها وتركيبها كما يراد ؛ وأن لا تكون في غاية اللين ، كالماء الذي تغوص فيه الرجل .

                                                                                                                                                                                                                                            الشرط الثالث : أن لا تكون في غاية اللطافة والشفافية ؛ فإن الشفاف لا يستقر النور عليه ، وما كان كذلك فإنه لا يتسخن من الكواكب والشمس ، فكان يبرد جدا ، فجعل الله كونه أغبر ، ليستقر النور عليه فيتسخن فيصلح أن يكون فراشا للحيوانات .

                                                                                                                                                                                                                                            الشرط الرابع : أن تكون بارزة من الماء ؛ لأن طبع الأرض أن يكون غائصا في الماء ، فكان يجب أن تكون البحار محيطة بالأرض ، ولو كانت كذلك لما كانت فراشا لنا ، فقلب الله طبيعة الأرض وأخرج بعض جوانبها من الماء كالجزيرة البارزة حتى صلحت لأن تكون فراشا لنا .

                                                                                                                                                                                                                                            ومن الناس من زعم أن الشرط في كون الأرض فراشا أن لا تكون كرة ، واستدل بهذه الآية على أن الأرض ليست كرة ، وهذا بعيد جدا ؛ لأن الكرة إذا عظمت جدا كانت القطعة منها كالسطح في إمكان الاستقرار عليه ، والذي يزيده تقريرا أن الجبال أوتاد الأرض ثم يمكن الاستقرار عليها ، فهذا أولى والله أعلم .

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية