( ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة ولهم عذاب عظيم )
قوله تعالى : ( ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة ولهم عذاب عظيم )
اعلم أنه تعالى لما بين في الآية الأولى أنهم لا يؤمنون أخبر في هذه الآية بالسبب الذي لأجله لم يؤمنوا ، وهو الختم ، والكلام ههنا يقع في مسائل :
( المسألة الأولى ) : الختم والكتم أخوان ؛ لأن في الاستيثاق من الشيء بضرب الخاتم عليه كتما له وتغطية ، لئلا يتوصل إليه أو يطلع عليه ، والغشاوة الغطاء فعالة من غشاه إذا غطاه ، وهذا البناء لما يشتمل على الشيء كالعصابة والعمامة .
المسألة الثانية : اختلف الناس في هذا الختم ، أما القائلون بأن فهذا الكلام على مذهبهم ظاهر ، ثم لهم قولان ، منهم من قال : الختم هو خلق الكفر في قلوب الكفار ، ومنهم من قال : هو خلق الداعية التي إذا انضمت إلى القدرة صار مجموع القدرة معها سببا موجبا لوقوع الكفر ، وتقريره أن القادر على الكفر إما أن يكون قادرا على تركه أو لا يكون ، فإن لم يقدر على تركه كانت القدرة على الكفر موجبة للكفر ، فخلق القدرة على الكفر يقتضي خلق الكفر ، وإن قدر على الترك كانت نسبة تلك القدرة إلى فعل الكفر وإلى تركه على سواء ، فإما أن يكون صيرورتها مصدرا للفعل بدلا عن الترك يتوقف على انضمام مرجح إليها أو لا يتوقف ، فإن لم يتوقف فقد وقع الممكن لا عن مرجح ، وتجويزه يقتضي القدح في الاستدلال بالممكن على المؤثر ، وذلك يقتضي نفي الصانع وهو محال ، وأما إن توقف على المرجح فذلك المرجح إما أن يكون من فعل الله أو من فعل العبد أو لا من فعل الله ولا من فعل العبد ، لا جائز أن يكون من فعل العبد وإلا لزم التسلسل ، ولا جائز أن يكون لا بفعل الله ولا بفعل العبد ؛ لأنه يلزم حدوث شيء لا لمؤثر ، وذلك يبطل القول بالصانع . فثبت أن كون قدرة العبد مصدرا للمقدور المعين يتوقف على أن ينضم إليها مرجح هو من فعل الله تعالى . فنقول : إذا انضم ذلك المرجح إلى تلك القدرة فإما أن يصير تأثير القدرة في ذلك الأثر واجبا أو جائزا أو ممتنعا ، والثاني والثالث باطل ، فتعين الأول ، وإنما قلنا إنه لا يجوز أن يكون جائزا لأنه لو كان جائزا لكان يصح في العقل أن يحصل مجموع القدرة مع ذلك المرجح تارة مع ذلك الأثر ، وأخرى منفكا عنه ، فلنفرض وقوع ذلك ؛ لأن كل ما كان جائزا لا يلزم من فرض وقوعه محال ، فذاك المجموع تارة يترتب عليه الأثر ، وأخرى لا يترتب عليه الأثر ، فاختصاص أحد الوقتين يترتب ذلك الأثر عليه إما أن يتوقف على [ ص: 46 ] انضمام قرينة إليه ، أو لا يتوقف ، فإن توقف كان المؤثر هو ذلك المجموع مع هذه القرينة الزائدة ، لا ذلك المجموع ، وكنا قد فرضنا أن ذلك المجموع هو المستقل خلف هذا ، وأيضا فيعود التقسيم في هذا المجموع الثاني ، فإن توقف على قيد آخر لزم التسلسل وهو محال ، وإن لم يتوقف فحينئذ حصل ذلك المجموع تارة بحيث يكون مصدرا للأثر ، وأخرى بحيث لا يكون مصدرا له ، مع أنه لم يتميز أحد الوقتين عن الآخر بأمر ما ألبتة ، فيكون هذا قولا بترجح الممكن لا عن مرجح وهو محال . فثبت أن عند حصول ذلك المرجح يستحيل أن يكون صدور ذلك الأثر جائزا ، وأما أنه لا يكون ممتنعا فظاهر ، وإلا لكان مرجح الوجود مرجحا للعدم وهو محال ، وإذا بطل القسمان ثبت أن عند حصول مرجح الوجود يكون الأثر واجب الوجود عن المجموع الحاصل من القدرة ، ومن ذلك المرجح ، وإذا ثبت هذا كان القول بالجبر لازما ؛ لأن قبل حصول ذلك المرجح كان صدور الفعل ممتنعا ، وبعد حصوله يكون واجبا ، وإذ عرفت هذا كان خلق الداعية الموجبة للكفر في القلب ختما على القلب ومنعا له عن قبول الإيمان ؛ فإنه سبحانه لما حكم عليهم بأنهم لا يؤمنون ذكر عقيبه ما يجري مجرى السبب الموجب له ؛ لأن العلم بالعلة يفيد العلم بالمعلول ، والعلم بالمعلول لا يكمل إلا إذا استفيد من العلم بالعلة ، فهذا قول من أضاف جميع المحدثات إلى الله تعالى . وأما أفعال العباد مخلوقة لله تعالى المعتزلة فقد قالوا : إنه لا يجوز إجراء هذه الآية على المنع من الإيمان ، واحتجوا فيه بالوجوه التي حكيناها عنهم في الآية الأولى ، وزادوا ههنا بأن الله تعالى قد كذب الكفار الذين قالوا : إن على قلوبهم كنا وغطاء يمنعهم عن الإيمان ( وقالوا قلوبنا غلف ) [البقرة : 88] ، ( بل طبع الله عليها بكفرهم فلا يؤمنون إلا قليلا ) [النساء : 155] ، وقال : ( فأعرض أكثرهم فهم لا يسمعون وقالوا قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه ) [فصلت : 4 ، 5] وهذا كله عيب وذم من الله تعالى فيما ادعوا أنهم ممنوعون عن الإيمان ، ثم قالوا : بل لا بد من حمل الختم والغشاوة على أمور أخر ، ثم ذكروا فيه وجوها :
أحدها : أن القوم لما أعرضوا وتركوا الاهتداء بدلائل الله تعالى حتى صار ذلك كالإلف والطبيعة لهم أشبه حالهم حال من منع عن الشيء وصد عنه ، وكذلك هذا في عيونهم حتى كأنها مسدودة لا تبصر شيئا ، وكأن بآذانهم وقرا حتى لا يخلص إليها الذكر ، وإنما أضيف ذلك إلى الله تعالى ؛ لأن هذه الصفة في تمكنها وقوة ثباتها كالشيء الخلقي ؛ ولهذا قال تعالى : ( بل طبع الله عليها بكفرهم فلا يؤمنون ) [النساء : 155] ( كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون ) [المطففين : 14] ( فأعقبهم نفاقا في قلوبهم إلى يوم يلقونه ) . [التوبة : 77] .
وثانيها : أنه يكفي في حسن الإضافة أدنى سبب ، فالشيطان هو الخاتم في الحقيقة أو الكافر ، إلا أن الله تعالى لما كان هو الذي أقدره أسند إليه الختم كما يسند الفعل إلى السبب .
وثالثها : أنهم لما أعرضوا عن التدبر ولم يصغوا إلى الذكر ، وكان ذلك عند إيراد الله تعالى عليهم الدلائل أضيف ما فعلوا إلى الله تعالى ؛ لأن حدوثه إنما اتفق عند إيراده تعالى دلائله عليهم كقوله تعالى في سورة براءة : ( فزادتهم رجسا إلى رجسهم ) [التوبة : 125] أي ازدادوا بها كفرا إلى كفرهم .
ورابعها : أنهم بلغوا في الكفر إلى حيث لم يبق طريق إلى تحصيل الإيمان لهم إلا بالقسر والإلجاء ، إلا أن الله تعالى ما أقرهم عليه لئلا يبطل التكليف ، فعبر عن ترك القسر والإلجاء بالختم إشعارا بأنهم الذين انتهوا في الكفر إلى حيث لا يتناهون عنه إلا بالقسر ، وهي الغاية القصوى في وصف لجاجهم في الغي .
وخامسها : أن يكون ذلك حكاية لما كان الكفرة يقولونه تهكما به من قولهم : ( قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه وفي آذاننا وقر ومن بيننا وبينك حجاب ) [فصلت : 5] ونظيره في الحكاية والتهكم قوله : [ ص: 47 ] ( ( لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكين حتى تأتيهم البينة ) [البينة : 1] .
وسادسها : من الله تعالى هو الشهادة منه عليهم بأنهم لا يؤمنون ، وعلى قلوبهم بأنها لا تعي الذكر ولا تقبل الحق ، وعلى أسماعهم بأنها لا تصغي إلى الحق كما يقول الرجل لصاحبه : أريد أن تختم على ما يقوله فلان ، أي تصدقه وتشهد بأنه حق ، فأخبر الله تعالى في الآية الأولى بأنهم لا يؤمنون ، وأخبر في هذه الآية بأنه قد شهد بذلك وحفظه عليهم . الختم على قلوب الكفار
وسابعها : قال بعضهم : هذه الآية إنما جاءت في قوم مخصوصين من الكفار فعل الله تعالى بهم هذا الختم والطبع في الدنيا عقابا لهم في العاجل ، كما عجل لكثير من الكفار عقوبات في الدنيا ، فقال : ( ولقد علمتم الذين اعتدوا منكم في السبت فقلنا لهم كونوا قردة خاسئين ) [البقرة : 65] وقال : ( فإنها محرمة عليهم أربعين سنة يتيهون في الأرض فلا تأس على القوم الفاسقين ) [المائدة : 26] ونحو هذا من العقوبات المعجلة لما علم الله تعالى فيها من العبرة لعباده والصلاح لهم ، فيكون هذا مثل ما فعل بهؤلاء من الختم والطبع ، إلا أنهم إذا صاروا بذلك إلى أن لا يفهموا سقط عنهم التكليف كسقوطه عمن مسخ ، وقد أسقط الله التكليف عمن يعقل بعض العقل كمن قارب البلوغ ، ولسنا ننكر أن يخلق الله في قلوب الكافرين مانعا يمنعهم عن الفهم والاعتبار إذا علم أن ذلك أصلح لهم كما قد يذهب بعقولهم ويعمي أبصارهم ، ولكن لا يكونون في هذا الحال مكلفين .
وثامنها : يجوز أن يجعل الله على قلوبهم الختم وعلى أبصارهم الغشاوة من غير أن يكون ذلك حائلا بينهم وبين الإيمان ، بل يكون ذلك كالبلادة التي يجدها الإنسان في قلبه والقذى في عينيه والطنين في أذنه ، فيفعل الله كل ذلك بهم ليضيق صدورهم ويورثهم الكرب والغم ، فيكون ذلك عقوبة مانعة من الإيمان كما قد فعل ببني إسرائيل فتاهوا ، ثم يكون هذا الفعل في بعض الكفار ، ويكون ذلك آية للنبي صلى الله عليه وسلم ودلالة له كالرجز الذي أنزل على قوم فرعون حتى استغاثوا منه ، وهذا كله مقيد بما يعلم الله تعالى أنه أصلح للعباد .
وتاسعها : يجوز أن يفعل هذا الختم بهم في الآخرة كما قد أخبر أنه يعميهم ، قال : ( ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم عميا وبكما وصما ) [الإسراء : 97] وقال : ( ونحشر المجرمين يومئذ زرقا ) [طه : 102] وقال : ( اليوم نختم على أفواههم ) [يس : 65] وقال : ( لهم فيها زفير وهم فيها لا يسمعون ) [الأنبياء : 100] .
وعاشرها : ما حكوه عن - وهو اختيار الحسن البصري والقاضي - أن المراد بذلك علامة وسمة يجعلها في قلب الكفار وسمعهم ، فتستدل الملائكة بذلك على أنهم كفار ، وعلى أنهم لا يؤمنون أبدا ، فلا يبعد أن يكون في قلوب المؤمنين علامة تعرف الملائكة بها كونهم مؤمنين عند الله كما قال : ( أبي علي الجبائي أولئك كتب في قلوبهم الإيمان ) [المجادلة : 22] وحينئذ الملائكة يحبونه ويستغفرون له ، ويكون لقلوب الكفار علامة تعرف الملائكة بها كونهم ملعونين عند الله فيبغضونه ويلعنونه ، والفائدة في تلك العلامة إما مصلحة عائدة إلى الملائكة ؛ لأنهم متى علموا بتلك العلامة كونه كافرا ملعونا عند الله تعالى صار ذلك منفرا لهم عن الكفر . أو إلى المكلف ، فإنه إذا علم أنه متى آمن فقد أحبه أهل السماوات صار ذلك مرغبا له في الإيمان ، وإذا علم أنه متى أقدم على الكفر عرف الملائكة منه ذلك فيبغضونه ويلعنونه صار ذلك زاجرا له عن الكفر . قالوا : والختم بهذا المعنى لا يمنع ؛ لأنا نتمكن بعد ختم الكتاب أن نفكه ونقرأه ، ولأن الختم هو بمنزلة أن يكتب على جبين الكافر أنه كافر ، فإذا لم يمنع ذلك من الإيمان فكذا هذا الكافر يمكنه أن يزيل تلك السمة عن قلبه بأن يأتي بالإيمان ويترك الكفر . قالوا : وإنما خص القلب والسمع بذلك ؛ لأن الأدلة السمعية لا تستفاد إلا من جهة السمع ، والأدلة العقلية لا تستفاد إلا من جانب القلب ، ولهذا خصهما بالذكر .
[ ص: 48 ] فإن قيل : فيتحملون الغشاوة في البصر أيضا على معنى العلامة ؟ قلنا : لا ؛ لأنا إنما حملنا ما تقدم على السمة والعلامة ، لأن حقيقة اللغة تقتضي ذلك ، ولا مانع منه ، فوجب إثباته . أما الغشاوة فحقيقتها الغطاء المانع من الإبصار ، ومعلوم من حال الكفار خلاف ذلك ، فلا بد من حمله على المجاز ، وهو تشبيه حالهم بحال من لا ينتفع ببصره في باب الهداية . فهذا مجموع أقوال الناس في هذا الموضع .