لميقاتنا : لوقتنا الذي وقتنا له حددناه ، ومعنى : "اللام" : الاختصاص ، فكأنه قيل : واختص مجيئه بميقاتنا ، كما تقول : أتيته لعشر خلون من الشهر وكلمه ربه : من غير واسطة ، كما يكلم الملك ، وتكليمه : أن يخلق الكلام منطوقا به في بعض الأجرام ، كما خلقه مخطوطا في اللوح ، وروي : أن موسى - عليه السلام - كان يسمع ذلك الكلام من كل جهة ، وعن - رضي الله عنه - : كلمه أربعين يوما ، وأربعين ليلة ، وكتب له الألواح . وقيل : إنما كلمه في أول الأربعين ابن عباس أرني أنظر إليك : ثاني مفعولي "أرني" محذوف ، أي : أرني نفسك أنظر إليك .
[ ص: 502 ] فإن قلت : الرؤية عين النظر ، فكيف قيل : أرني أنظر إليك؟
قلت : معنى أرني نفسك ، اجعلني متمكنا من رؤيتك بأن تتجلى لي فأنظر إليك وأراك .
فإن قلت : فكيف قال : لن تراني ولم يقل : "لن تنظر إلي" لقوله : أنظر إليك ؟
قلت : لما قال : " أرني" بمعنى : اجعلني متمكنا من الرؤية التي هي الإدراك ، علم أن الطلبة هي الرؤية ، لا النظر الذي لا إدراك معه ، فقيل : "لن تراني" ، ولم يقل : "لن تنظر إلي" .
فإن قلت : كيف طلب موسى - عليه السلام - ذلك وهو من أعلم الناس بالله وصفاته وما يجوز عليه وما لا يجوز ، وبتعاليه عن الرؤية التي هي إدراك ببعض الحواس ، وذلك إنما يصح فيما كان في جهة ، وما ليس بجسم ، ولا عرض ، فمحال أن يكون في جهة ، ومنع المجبرة إحالته في العقول غير لازم ; لأنه ليس بأول مكابرتهم وارتكابهم ، وكيف يكون [ ص: 503 ] طالبه وقد قال - حين أخذت الرجفة الذين قالوا : أرنا الله جهرة - أتهلكنا بما فعل السفهاء منا إلى قوله : تضل بها من تشاء : فتبرأ من فعلهم ، ودعاهم سفهاء وضلالا ؟
قلت : ما كان طلب الرؤية إلا ليبكت هؤلاء الذين دعاهم سفهاء وضلالا ، وتبرأ من فعلهم ، وليلقمهم الحجر ; وذلك أنهم حين طلبوا الرؤية أنكر عليهم وأعلمهم الخطأ ، ونبههم على الحق ، فلجوا وتمادوا في لجاجهم وقالوا : لا بد ، ولن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة ، فأراد أن يسمعوا النص من عند الله باستحالة ذلك ، وهو قوله : لن تراني : ليتيقنوا وينزاح عنهم ما دخلهم من الشبهة ; فلذلك قال : رب أرني أنظر إليك .
فإن قلت : فهلا قال : أرهم ينظروا إليك؟
قلت : لأن الله سبحانه إنما كلم موسى - عليه السلام - وهم يسمعون ، فلما سمعوا كلام رب العزة أرادوا أن يرى موسى ذاته فيبصروه معه ، كما أسمعه كلامه فسمعوه معه ; إرادة مبنية على قياس فاسد ; فلذلك قال موسى : "أرني أنظر إليك" ، ولأنه إذا زجر عما طلب ، وأنكر عليه في نبوته واختصاصه وزلفته عند الله تعالى - وقيل له : لن يكون ذلك ، كان غيره أولى بالإنكار ، لأن الرسول إمام أمته ، فكان ما يخاطب به أو ما يخاطب راجعا إليهم ، وقوله : أنظر إليك ، وما فيه من معنى المقابلة التي هي محض التشبيه [ ص: 504 ] والتجسيم ، دليل على أنه ترجمة عن مقترحهم وحكاية لقولهم ، وجل صاحب الجمل أن يجعل الله منظورا إليه ، مقابلا بحاسة النظر ، فكيف بمن هو أعرق في معرفة الله - تعالى- من ، واصل بن عطاء ، وعمرو بن عبيد والنظام ، وأبي الهذيل والشيخين ، وجميع المتكلمين؟
فإن قلت : ما معنى "لن"؟
قلت : تأكيد النفي الذي تعطيه : "لا" ، وذلك أن : "لا" تنفي المستقبل ، تقول : لا أفعل غدا ، فإذا أكدت نفيها ، قلت : لن أفعل غدا ، والمعنى : إن فعله ينافي حالي ; كقوله : لن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له [الحج : 73] ، فقوله : لا تدركه الأبصار : نفي للرؤية فيما يستقبل ، ولن تراني تأكيد وبيان ; لأن المنفي مناف لصفاته .
فإن قلت : كيف اتصل الاستدراك في قوله : ولكن انظر إلى الجبل بما قبله؟
قلت : اتصل به على معنى أن النظر إلي محال ، فلا تطلبه ، ولكن عليك بنظر آخر : وهو أن تنظر إلى الجبل الذي يرجف بك ، وبمن طلبت الرؤية لأجلهم ، كيف أفعل به ، وكيف أجعله دكا بسبب طلبك الرؤية؟ لتستعظم ما أقدمت عليه بما أريك من علم أثره ، كأنه - عز وعلا - حقق عند طلب الرؤية ما مثله عند نسبة الولد إليه في قوله : وتخر الجبال هدا أن دعوا للرحمن ولدا [مريم : 90 ، 91] فإن استقر مكانه : كما كان مستقرا ثابتا ذاهبا في جهاته فسوف تراني : تعليق لوجود الرؤية موجود ما لا يكون من استقرار [ ص: 505 ] الجبل مكانه حين يدركه دكا ويسويه بالأرض ، وهذا كلام مدمج بعضه في بعض ، وارد على أسلوب عجيب ونمط بديع ; ألا ترى كيف تخلص من النظر إلى النظر بكلمة الاستدراك؟ ثم كيف بنى الوعيد بالرجفة الكائنة بسبب طلب النظر على الشريطة في وجود الرؤية؟ أعني قوله : فإن استقر مكانه فسوف تراني فلما تجلى ربه للجبل : فلما ظهر له اقتداره وتصدى له أمره وإرادته جعله دكا أي : مدكوكا مصدر بمعنى مفعول كضرب الأمير ، والدك والدق أخوان ، كالشك والشق ، وقرئ : " دكاء " ، والدكاء : اسم للرابية الناشزة من الأرض ، كالدكة أو أرضا دكاء مستوية ، ومنه قولهم : ناقة دكاء متواضعة السنام ، وعن : قال لي الشعبي ابسط يدك دكاء ، أي : مدها مستوية ، وقرأ الربيع بن خثيم : دكا ، أي : قطعا ، "دكا" : جمع : دكاء يحيى بن وثاب : وخر موسى صعقا : من هول ما رأى ، وصعق من باب : فعلته ففعل ، يقال : صعقته فصعق ، وأصله : من الصاعقة ، ويقال لها : "الصاقعة" ، من صقعه إذا ضربه على رأسه ، ومعناه : خر مغشيا عليه غشية كالموت ، وروي : أن الملائكة مرت عليه وهو مغشي عليه ، فجعلوا يلكزونه بأرجلهم ، ويقولون : يا ابن النساء الحيض أطمعت في رؤية رب العزة؟ فلما أفاق : من صعقته قال سبحانك : أنزهك مما لا يجوز عليك من الرؤية وغيرها تبت إليك : من طلب الرؤية وأنا أول المؤمنين : بأنك لست بمرئي ولا مدرك بشيء من الحواس .
فإن قلت : فإن كان طلب الرؤية للغرض الذي ذكرته ، فمم تاب؟
[ ص: 506 ] قلت : من إجرائه تلك المقالة العظيمة ، وإن كان لغرض صحيح على لسانه ، من غير إذن فيه من الله - تعالى - فانظر إلى إعظام الله - تعالى- أمر الرؤية في هذه الآية ، وكيف أرجف الجبل بطالبها وجعله دكا ، وكيف أصعقهم ولم يخل كليمه من نفيان ذلك ; مبالغة في إعظام الأمر ، وكيف سبح ربه ملتجئا إليه ، وتاب من إجراء تلك الكلمة على لسانه ، وقال : أنا أول المؤمنين ، ثم تعجب من المتسمين بالإسلام المتسمين بأهل السنة والجماعة ، كيف اتخذوا هذه العظيمة مذهبا ، ولا يغرنك تسترهم بالبلكفة ; فإنه من منصوبات أشياخهم ; والقول ما قال بعض العدلية فيهم [من الكامل] :
لجماعة سموا هواهم سنة وجماعة حمر لعمري موكفه قد شبهوه بخلقه وتخوفوا
شنع الورى فتستروا بالبلكفه
وتفسير آخر : وهو أن يريد بقوله : أرني أنظر إليك عرفني نفسك تعريفا واضحا جليا ، كأنها إراءة في جلائها بآية مثل آيات القيامة التي تضطر الخلق إلى معرفتك أنظر إليك : أعرفك معرفة اضطرار ; كأني أنظر إليك ، كما جاء في الحديث : بمعنى : ستعرفونه معرفة جلية هي في الجلاء كإبصاركم [ ص: 507 ] القمر إذا امتلأ واستوى "سترون ربكم كما ترون القمر ليلة البدر" قال لن تراني أي : لن تطيق معرفتي على هذه الطريقة ، ولن تحتمل قوتك تلك الآية المضطرة ، ولكن انظر إلى الجبل ، فإني أورد عليه ، وأظهر له آية من تلك الآيات ، فإن ثبت لتجليها واستقر مكانه ولم يتضعضع ، فسوف تثبت لها وتطيقها فلما تجلى ربه للجبل : فلما ظهرت له آية من آيات قدرته وعظمته جعله دكا وخر موسى صعقا : لعظم ما رأى فلما أفاق قال سبحانك تبت إليك : مما اقترحت وتجاسرت وأنا أول المؤمنين : بعظمتك وجلالك ، وأن شيئا لا يقوم لبطشك وبأسك .