الفصل الثالث : في تعارض الفعلين فنقول : معنى التعارض التناقض ، فإن وقع في الخبر أوجب كون واحد منهما كذبا ، ولذلك لا يجوز التعارض في الأخبار من الله تعالى ، ورسوله ، وإن ، فيتناقض ، فيرفع الأخير الأول ، ويكون نسخا ، وهذا متصور ، وإذا عرفت أن التعارض هو التناقض فلا يتصور وقع في الأمر ، والنهي ، والأحكام ; لأنه لا بد من فرض الفعلين في زمانين أو في شخصين ، فيمكن الجمع بين وجوب أحدهما ، وتحريم الآخر ، فلا تعارض . التعارض في الفعل
فإن قيل : فالقول أيضا لا يتناقض ، إذ يوجد القولان في حالتين ، وإنما يتناقض حكمهما فكذلك يتناقض حكم الفعلين . قلنا : إنما يتناقض حكم القولين ; لأن القول الأول اقتضى حكما دائما ، فيقطع القول الثاني دوامه ، والفعل لا يدل أصلا على حكم ، ولا على دوام حكم ، نعم لو أشعرنا الشارع بأنه يريد بمباشرة فعل بيان دوام وجوبه ، ثم ترك ذلك الفعل بعده كان ذلك نسخا ، وقطعا لدوام حكم ظهر بالفعل مع تقدم الإشعار ، فهذا القدر ممكن .
وأما [ ص: 280 ] فممكن بأن يقول قولا يوجب على أمته فعلا دائما ، وأشعرهم بأن حكمه فيه حكمهم ابتداء ، ونسخا ثم فعل خلافه أو سكت على خلافه كان الأخير نسخا ، وإن أشكل التاريخ وجب طلبه ، وإلا فهو متعارض ، كما روي أنه قال في السارق : { التعارض بين القول ، والفعل } ثم { وإن سرق خامسة فاقتلوه أتي بمن سرق خامسة فلم يقتله } ، فهذا إن تأخر فهو نسخ القول بالفعل ، وإن تأخر القول فهو نسخ ما دل عليه الفعل ، وقد قال قوم : إذا تعارضا ، وأشكل التاريخ يقدم القول ; لأن القول بيان بنفسه بخلاف الفعل ، فإن الفعل يتصور أن يخصه ، والقول يتعدى إلى غيره ; ولأن القول يتأكد بالتكرار بخلاف الفعل .
فنقول : أما قولكم إن الفعل ليس بيانا بنفسه فمسلم ولكن كلامنا في فعل صار بيانا لغيره وبعد أن صار بيانا لغيره ، فلا يتأخر عما كان بيانا بنفسه ، وأما خصوص الفعل فمسلم أيضا ، ولكن كلامنا في فعل لا يمكن حمله على خاصيته ، وأما تأكيد القول بالتكرار ، إن عني به أنه إذا تواتر أفاد العلم ، فهذا مسلم إذا تواتر من أشخاص ، فليس ذلك تكرارا ، وتكراره من شخص واحد لا أثر له كتكرار الفعل .
هذا تمام الكلام في الأفعال الملحقة بالأقوال ، وبيان ما فيها من البيان ، والإجمال ، ولنشتغل بعدها بالفن الثالث من القطب ، وهو المرسوم لبيان كيفية دلالة الألفاظ على المدلولات بمعقولها ، ومعناها ، وهو الذي يسمى قياسا ، فلنخض في شرح كتاب القياس مستعينين بالله عز وجل .