الفصل الثاني : في شبهات متفرقة في أحكام الأفعال
الأولى : قال قائل : إذا نقل إلينا فعله عليه السلام فما الذي يجب على المجتهد أن يبحث عنه ، وما الذي يستحب ؟ قلنا : لا يجب إلا أمر واحد ، وهو البحث عنه هل ورد بيانا لخطاب عام أو تنفيذا لحكم
لازم عام ، فيجب علينا اتباعه ، أو ليس كذلك ، فيكون قاصرا عليه ، فإن لم يقم دليل على كونه بيانا لحكم عام فالبحث عن كونه ندبا في حقه أو واجبا أو مباحا أو محظورا أو قضاء أو أداء موسعا أو مضيقا ، لا يجب بل هو زيادة درجة ، وفضل في العلم يستحب
. للعالم أن يعرفه .
فإن قيل : كم أصناف ما يحتاج إلى البيان سوى الفعل ؟ قلنا : ما يتطرق إليه احتمال ، كالمجمل ، والمجاز ، والمنقول عن وضعه ، والمنقول بتصرف الشرع ، والعام المحتمل للخصوص ، والظاهر المحتمل للتأويل ، ونسخ الحكم بعد استقراره ، ومعنى قول افعل أنه للندب أو الوجوب أو أنه على الفور أو التراخي أو أنه للتكرار أو المرة الواحدة ، والجمل المعطوفة إذا أعقبت باستثناء ، وما يجري مجراه مما يتعارض فيه الاحتمال ، والفعل من جملة ذلك . فإن قيل : فإن بين لنا بفعله ندبا فهل يكون فعله واجبا قلنا : نعم هو من حيث إنه بيان واجب ; لأنه تبليغ للشرع ، ومن حيث إنه فعل ندب ، وذهب بعض القدرية إلى أن بيان الواجب واجب ، وبيان الندب ندب ، وبيان المباح مباح ، ويلزم على ذلك أن يكون بيان المحظور محظورا ، فإذا كان بيان المحظور واجبا فلم لا يكون بيان الندب واجبا ؟ وكذلك بيان المباح ، وهي أحكام الله تعالى على عباده ، والرسول مأمور بالتبليغ [ ص: 278 ]
وبيانه بالقول أو الفعل ، وهو مخير بينهما ، فإذا أتى بالفعل فقد أتى بإحدى خصلتي الواجب ، فيكون فعله واقعا عن الواجب . فإن قيل : ، وبم يعرف كون فعله بيانا ؟ قلنا : إما بصريح قوله ، وهو ظاهر أو بقرائن ، وهي كثيرة
إحداها : أن يرد خطاب مجمل ، ولم يبينه بقوله إلى وقت الحاجة ثم فعل عند الحاجة ، والتنفيذ للحكم فعلا صالحا للبيان فيعلم أنه بيان ، إذ لو لم يكن لكان مؤخرا للبيان عن وقت الحاجة ، وذلك محال عقلا عند قوم ، وسمعا عند آخرين ، وكونه غير واقع متفق عليه ، لكن كون الفعل متعينا للبيان يظهر للصحابة إذ قد علموا عدم البيان بالقول ، أما نحن ، فيجوز أن يكون قد بين بالقول ، ولم يبلغنا ، فيكون الظاهر عندنا أن الفعل بيان ; فقطع يد السارق من الكوع ، وتيممه إلى المرفقين بيان لقوله عز وجل : { فاقطعوا أيديهما } ولقوله تعالى : { فامسحوا بوجوهكم ، وأيديكم } .
الثانية : أن ينقل فعل غير مفصل كمسحه رأسه ، وأذنيه من غير تعرض لكونهما مسحا بماء واحد أو بماء جديد ثم ينقل أنه أخذ لأذنيه ماء جديدا ، فهذا في الظاهر يزيل الاحتمال عن الأول ، ولكن يحتمل أن الواجب ماء واحد ، وأن المستحب ماء جديد ، فيكون أحد الفعلين على الأقل ، والثاني على الأكمل .
الثالثة : أن يترك ما لزمه ، فيكون بيانا لكونه منسوخا في حقه أما في حق غيره فلا يثبت النسخ إلا ببيان الاشتراك في الحكم ، نعم لو ترك غيره بين يديه فلم ينكر مع معرفته ، فيدل على النسخ في حق الغير .
الرابعة : أنه إذا أتي بسارق ثمر أو ما دون النصاب فلم يقطع ، فيدل على تخصيص الآية ; لكن هذا بشرط أن يعلم انتقاء شبهة أخرى تدرأ القطع ; لأنه لو أتي بسارق سيف فلم يقطعه فلا يتبين لنا سقوط القطع في السيف ، ولا في الحديد لكن يبحث عن سببه ، فكذلك الثمر ، وما دون النصاب ، وكذلك تركه القنوت ، والتسمية ، والتشهد الأول مرة واحدة لا يدل على النسخ إذ يحمل على نسيان أو على بيان جواز ترك السنة ، وإن ترك مرات دل على عدم الوجوب ، وكذلك لو ترك الفخذ مكشوفا دل على أنه ليس من العورة .
الخامسة : إذا فعل في الصلاة ما لو لم يكن واجبا لأفسد الصلاة دل على الوجوب ، كزيادة ركوع في الخسوف ، وكحمل أمامة في الصلاة يدل على أن الفعل القليل لا يبطل ، وأنه فعل قليل ، هذا مع قوله : { } يكون بيانا في حقنا . صلوا كما رأيتموني أصلي
السادسة : إذا أمر الله تعالى بالصلاة ، وأخذ الجزية ، والزكاة مجملا ثم أنشأ الصلاة ، وابتدأ بأخذ الجزية ، فيظهر كونه بيانا ، وتنفيذا ، لكن إن لم تكن الحاجة متنجزة بحيث يجوز تأخير البيان فلا يتعين لكونه بيانا بل يحتمل أن يكون فعلا أمر به خاصة في ذلك الوقت ، فإذا لا يصير بيانا للحكم العام إلا بقرينة أخرى .
السابعة : أخذه مالا ممن فعل فعلا أو إيقاعه ضربا أو نوع عقوبة فإنه له خاصة ما لم ينبه على أن من فعل ذلك الفعل فعليه مثل ذلك المال فإنه لا يمتنع ; لأنه ، وإن تقدم ذلك [ ص: 279 ] الفعل فلا يتعين لكونه موجب أخذ المال ، وأنه لا يمتنع وجود سبب آخر هو المقتضي للمال وللعقوبة . أما قضاؤه على من فعل فعلا بعقوبة أو مال ، كقضائه على الأعرابي بإعتاق رقبة ، فإنه يدل على أنه موجب ذلك الفعل ; لأن الراوي لا يقول قضي على فلان بكذا لما فعل كذا إلا بعد معرفته بالقرينة . فإن قيل : فإذا فعل فعلا ، وكان بيانا ، ووقع في زمان ، ومكان ، وعلى هيئة ، فهل يتبع الزمان ، والمكان ، والهيئة ؟ فيقال : أما الهيئة ، والكيفية فنعم ، وأما الزمان ، والمكان فهو كتغيم السماء وصحوها ، ولا مدخل له في الأحكام ، إلا أن يكون الزمان ، والمكان لائقا به بدليل دل عليه ، كاختصاص الحج بعرفات ، والبيت ، واختصاص الصلوات بأوقات ; لأنه لو اتبع المكان للزم مراعاة تلك الرواية بعينها ، ووجب مراعاة ذلك الوقت ، وقد انقضى ، ولا يمكن إعادته ، وما بعده من الأوقات ليس مثلا ، فيجب إعادة الفعل في الزمان الماضي ، وهو محال ، وقد قال قوم : إن تكرر فعله في مكان واحد ، وزمان واحد دل على الاختصاص ، وإلا فلا ، وهو فاسد لما سبق ذكره . فإن قيل : إن كان فعله بيانا فتقريره على الفعل ، وسكوته عليه ، وتركه الإنكار ، واستبشاره بالفعل أو مدحه له ، هل يدل على الجواز ، وهل يكون بيانا ؟ قلنا : نعم ، سكوته مع المعرفة ، وتركه الإنكار دليل على الجواز ، إذ لا يجوز له ترك الإنكار لو كان حراما ، ولا يجوز له الاستبشار بالباطل ، فيكون دليلا على الجواز كما نقل في قاعدة القيافة ، وإنما تسقط دلالته عند من يحمل ذلك على المعصية ، ويجوز عليه الصغيرة ، ونحن نعلم اتفاق الصحابة على إنكار ذلك ، وإحالته . فإن قيل : لعله منع من الإنكار مانع كعلمه بأنه لم يبلغه التحريم فلذلك فعله ، أو بلغه الإنكار مرة فلم ينجع فيه فلم يعاوده . قلنا : ليس هذا مانعا ; لأن من لم يبلغه التحريم ، فيلزمه تبليغه ، ونهيه حتى لا يعود ، ومن بلغه ، ولم ينجع فيه ، فيلزمه إعادته ، وتكراره كي لا يتوهم نسخ التحريم . فإن قيل : فلم لم يجب عليه أن يطوف صبيحة كل سبت ، وأحد على اليهود ، والنصارى إذا اجتمعوا في كنائسهم ، وبيعهم ؟ قلنا : ; لأنه علم أنهم مصرون مع تبليغه ، وعلم الخلق أنه مصر على تكفيرهم دائما ، فلم يكن ذلك مما يوهم النسخ ، بخلاف فعل يجري بين يديه مرة واحدة أو مرات فإن السكوت عنه يوهم النسخ