رجعنا إلى المقصود ، وهو ، فما عرف بقوله إنه تعاطاه بيانا للواجب كقوله عليه السلام : { أفعاله عليه السلام } { صلوا كما رأيتموني أصلي } أو علم بقرينة الحال أنه إمضاء لحكم نازل كقطع يد السارق من الكوع ، فهذا دليل ، وبيان ، وما عرف أنه [ ص: 275 ] خاصيته فلا يكون دليلا في حق غيره ، وأما ما لم يقترن به بيان في نفي ، ولا إثبات فالصحيح عندنا أنه لا دلالة له بل هو متردد بين الإباحة ، والندب ، والوجوب ، وبين أن يكون مخصوصا به ، وبين أن يشاركه غيره فيه ، ولا يتعين واحد من هذه الأقسام إلا بدليل زائد بل يحتمل الحظر أيضا عند من يجوز عليهم الصغائر ، وقال قوم : إنه على الحظر ، وقال قوم على الإباحة ، وقال قوم على الندب ، وقال قوم على الوجوب إن كان في العبادات ، وإن كان في العادات فعلى الندب ، ويستحب التأسي به ، وهذه تحكمات ; لأن الفعل لا صيغة له ، وهذه الاحتمالات متعارضة ، ونحن نفرد كل واحد بالإبطال . وخذوا عني مناسككم
أما إبطال الحمل على الحظر فهو أن هذا خيال من رأى الأفعال قبل ورود الشرع على الحظر قال : وهذا الفعل لم يرد فيه شرع ، ولا يتعين بنفسه لإباحة ، ولا لوجوب ، فيبقى على ما كان . فلقد صدق في إبقاء الحكم على ما كان ، وأخطأ في قوله بأن الأحكام قبل الشرع على الحظر ، وقد أبطلنا ذلك ، ويعارضه قول من قال : إنها على الإباحة ، وهو أقرب من الحظر . ثم يلزم منه تناقض ، وهو أن يأتي بفعلين متضادين في وقتين فيؤدي إلى أن يحرم الشيء ، وضده ، وهو تكليف المحال . أما إبطال الإباحة فهو أنه إن أراد به أنه أطلق لنا مثل ذلك فهو تحكم لا يدل عليه عقل ، ولا سمع ، وإن أراد به أن الأصل في الأفعال نفي الحرج ، فيبقى على ما كان قبل الشرع فهو حق ، وقد كان كذلك قبل فعله فلا دلالة إذا لفعله .
أما إبطال الحمل على الندب فإنه تحكم إذا لم يحمل على الوجوب لاحتمال كونه ندبا فلا يحمل على الندب لاحتمال كونه واجبا بل لاحتمال كونه مباحا .
تمسكوا بشبهتين :
الأولى : أن فعله يحتمل الوجوب ، والندب ، والندب أقل درجاته فيحمل عليه . قلنا : إنما يصح ما ذكروه لو كان الندب داخلا في الوجوب ، ويكون الوجوب ندبا ، وزيادة ، وليس كذلك إذ يدخل جواز الترك في حد الندب دون حد الوجوب ، وأقرب ما قيل فيه الحمل على الندب لا سيما في العبادات ، أما في العادات فلا أقل من حمله على الإباحة لا بمجرد الفعل ، ولكن نعلم أن الصحابة كانوا يعتقدون في كل فعل له أنه جائز
ويستدلون به على الجواز يدل هذا على نفي الصغائر عنه ، وكانوا يتبركون بالاقتداء به في العادات ، لكن هذا أيضا ليس بقاطع إذ يحتمل أن يكون استدلالهم بذلك مع قرائن حسمت بقية الاحتمالات ، وكلامنا في مجرد الأفعال دون قرينة ، ولا شك في أن لما رآه مستقبل ابن عمر بيت المقدس في قضاء حاجته استدل به على كونه مباحا إذا كان في بناء ; لأنه كان في البناء ، ولم يعتقد أنه ينبغي أن يقتدى به فيه ، ; لأنه خلا بنفسه فلم يكن يقصد إظهاره ليعلم بالقرينة قصده الدعاء إلى الاقتداء .
فتبين من هذا أنهم اعتقدوا أن ما فعله مباح ، وهذا يدل على أنهم لم يجوزوا عليه الصغائر ، وأنهم لم يعتقدوا الاقتداء في كل فعل بل ما تقترن به قرينة تدل على إرادته البيان بالفعل .
الثانية : التمسك بقوله : { لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة } . فأخبر أن لنا التأسي ، ولم يقل عليكم التأسي فيحمل على الندب لا على الوجوب . قلنا : الآية حجة عليكم ; لأن التأسي به في إيقاع الفعل الذي أوقعه على ما أوقعه ، فما أوقعه واجبا أو مباحا إذا أوقعناه على وجه الندب لم نكن مقتدين به ، كما أنه إذا قصد الندب فأوقعناه واجبا خالفنا التأسي ، فلا سبيل إلى التأسي به قبل معرفة قصده [ ص: 276 ] ولا يعرف قصده إلا بقوله أو بقرينة . ثم نقول : إذا انقسمت أفعاله إلى الواجب ، والندب لم يكن من يحمل الكل على الوجوب متأسيا ، ومن يجعل الكل أيضا ندبا متأسيا ، بل كان النبي عليه السلام يفعل ما لا يدري فمن فعل ما لا يدري على أي وجه فعله لم يكن متأسيا .
أما إبطال الحمل على الوجوب فإن ذلك لا يعرف بضرورة عقل ، ولا نظر ، ولا بدليل قاطع ، فهو تحكم ; لأن فعله متردد بين الوجوب ، والندب ، وعند من لم يوجب عصمته من الصغائر يحتمل الحظر أيضا فلم يتحكم بالحمل على الوجوب . شبه
الأولى : قولهم : لا بد من وصف فعله بأنه حق وصواب ، ومصلحة ، ولولاه لما أقدم عليه ، ولا تعبد به . قلنا : جملة ذلك مسلم في حقه خاصة ليخرج به عن كونه محظورا ، وإنما الكلام في حقنا ، وليس يلزم الحكم بأن ما كان في حقه حقا وصوابا ، ومصلحة كان في حقنا كذلك بل لعله مصلحة بالإضافة إلى صفة النبوة أو صفة يختص بها ، ولذلك خالفنا في جملة من الجائزات ، والواجبات ، والمحظورات ، بل اختلف المقيم ، والمسافر ، والحائض ، والطاهر في الصلوات فلم يمتنع اختلاف النبي ، والأمة .
الثانية : أنه نبي ، وتعظيم النبي واجب ، والتأسي به تعظيم . قلنا : تعظيم الملك في الانقياد له فيما يأمر ، وينهى لا في التربع إذا تربع ، ولا في الجلوس على السرير إذا جلس عليه ، فلو نذر الرسول أشياء لم يكن تعظيمه في أن ننذرها مثل ما نذرها ، ولو طلق أو باع أو اشترى لم يكن تعظيمه في التشبه به .
الثالثة : أنه لو لم يتابع في أفعاله لجاز أن لا يتابع في أقواله ، وذلك تصغير لقدره ، وتنفير للقلوب عنه قلنا : هذا هذيان فإن المخالفة في القول عصيان له ، وهو مبعوث للتبليغ حتى يطاع في أقاويله ; لأن قوله متعد إلى غيره ، وفعله قاصر عليه ، وأما التنفير فقد بينا أنه لا التفات إليه ، ولو كان ترك التشبه به تصغيرا لكان تركنا للوصال ، وتركنا نكاح تسع بل تركنا دعوى النبوة تصغيرا ; فاستبان أن هذه خيالات ، وأن التحقيق أن الفعل متردد كما أن اللفظ المشترك كالقرء متردد فلا يجوز حمله على أحد الوجوه إلا بدليل زائد .
الرابعة : تمسكهم بآي من الكتاب كقوله تعالى : { واتبعوه } ، وأنه يعم الأقوال ، والأفعال ، وكقوله تعالى : { فليحذر الذين يخالفون عن أمره } ، وقوله { ، وما آتاكم الرسول فخذوه } ، وأمثاله ، وجميع ذلك يرجع إلى قبول أقواله ، وغايته أن يعم الأقوال ، والأفعال ، وتخصيص العموم ممكن ، ولذلك لم يجب على الحائض ، والمريض موافقته مع أنهم مأمورون بالاتباع ، والطاعة .
الخامسة : وهي أظهرها : تمسكهم بفعل الصحابة ، وهو أنهم واصلوا الصيام لما واصل ، وخلعوا نعالهم في الصلاة لما خلع ، وأمرهم عام الحديبية بالتحلل بالحلق فتوقفوا فشكا إلى فقالت اخرج إليهم ، واذبح ، واحلق ففعل ، فذبحوا ، وحلقوا مسارعين ، وأنه خلع خاتمه فخلعوا ، وبأن أم سلمة كان يقبل الحجر ، ويقول : إني لأعلم أنك حجر لا تضر ، ولا تنفع ، ولولا أني رأيت النبي عليه السلام يقبلك ما قبلتك ، وبأنه قال في جواب من سأل عمر عن قبلة الصائم فقال : { أم سلمة ألا أخبرتيه أني أقبل ، وأنا صائم } ، وكذلك الصحابة رضي الله عنهم بأجمعهم اختلفوا في الغسل من التقاء الختانين ، فقالت رضي الله عنها : { عائشة } ، فرجعوا إلى ذلك . فعلته أنا ، ورسول الله فاغتسلنا
الجواب من وجوه [ ص: 277 ] الأول : أن هذه أخبار آحاد ، وكما لا يثبت القياس ، وخبر الواحد إلا بدليل قاطع فكذلك هذا ; لأنه أصل . من الأصول .
الثاني : أنهم لم يتبعوه في جميع أفعاله ، وعباداته فكيف صار اتباعهم للبعض دليلا ، ولم تصر مخالفتهم في البعض دليل جواز المخالفة .
الثالث : وهو التحقيق : أن أكثر هذه الأخبار تتعلق بالصلاة ، والحج ، والصوم ، والوضوء ، وقد كان بين لهم أن شرعه ، وشرعهم فيه سواء فقال : { } ، و { صلوا كما رأيتموني أصلي } ، وعلمهم الوضوء ، وقال : { خذوا عني مناسككم } ، وأما الوصال فإنهم ظنوا لما أمرهم بالصوم ، واشتغل معهم به أنه قصد بفعله امتثال الواجب ، وبيانه فرد عليهم ظنهم ، وأنكر عليهم الموافقة ، وكذلك في قبلة الصائم ربما كان قد بين لهم مساواة الحكم في المفطرات ، وأن شرعه شرعهم ، وكذلك في الأحداث قد عرفهم مساواة الحكم فيها ففهموا لا بمجرد حكاية الفعل ، كيف ، وقد نقل أنه عليه السلام قال : { هذا وضوئي ، ووضوء الأنبياء من قبلي } ؟ وأما خلع الخاتم فهو مباح فلما خلع أحبوا موافقته لا لاعتقادهم وجوب ذلك عليهم ، أو توهموا أنه لما ساواهم في سنة التختم فيساويهم في سنة الخلع . فإن قيل : الأصل أن ما ثبت في حقه عام إلا ما استثنى إذا التقى الختانان فقد وجب الغسل قلنا : لا بل الأصل أن ما ثبت في حقه فهو خاص إلا ما عممه .
فإن قيل التعميم أكثر فلينزل عليه . قلنا ولم يجب التنزيل على الأكثر ، وإذا اشتبهت أخت بعشر أجنبيات فالأكثر حلال ، ولا يجوز الأخذ به ؟ كيف ، والمباحات أكثر من المندوبات ، فلتلحق بها ؟ والمندوبات أكثر من الواجبات فلتلحق بها بل ربما قال القائل : المحظورات أكثر من الواجبات فلتنزل عليها