المقصد الثالث من مقاصد القرآن
( بيان أن الإسلام دين الفطرة السليمة ، والعقل والفكر ، والعلم والحكمة ، والبرهان والحجة ، والضمير والوجدان ، والحرية والاستقلال ) .
قد أتى على البشر حين من الدهر لا يعرفون من الدين إلا أنه تعاليم خارجة عن محيط العقل ، كلف البشر بها مقاومة فطرتهم ، وتعذيب أنفسهم ، ومكابرة عقولهم وبصائرهم ، خضوعا للرؤساء الذين يلقنونهم إياها ، فإن انقادوا لسيطرتهم عليهم بها كانوا من الفائزين ، وإن خالفوهم سرا أو جهرا كانوا من الهالكين .
حتى إذا بعث الله محمدا خاتم النبيين ، يتلو عليهم آياته ويعلمهم الكتاب والحكمة ، ويزكيهم مما كانوا فيه من الضلال المبين - بين لهم أن دين الله الإسلام هو دين الفطرة ، والعقل والفكر ، والعلم والحكمة ، والبرهان والحجة ، والضمير والوجدان ، والحرية والاستقلال ، وأن لا سيطرة على روح الإنسان وعقله وضميره لأحد من خلق الله ، وإنما رسل الله هداة مرشدون ، مبشرون ومنذرون ، كما تقدم بيانه في المقصد الذي قبل هذا ، ونبين هذه المزايا بالشواهد المختصرة من القرآن فنقول :
( 1 ) : الإسلام دين الفطرة
قال الله تعالى : ( فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون ) ( 30 : 30 ) الحنيف صفة من الحنف ( بالتحريك ) وهو الميل عن العوج إلى الاستقامة . وعن الضلالة إلى الهدى ، وعن الباطل إلى الحق ، ويقابله الزيغ وهو الميل عن الحق إلى الباطل إلخ . وفطرة الله التي فطر الناس [ ص: 201 ] عليها هي الجبلة الإنسانية ، الجامعة بين الحياتين : الجسمانية الحيوانية ، والروحانية الملكية ، والاستعداد لمعرفة عالم الشهادة وعالم الغيب فيهما ، وما أودع فيها من غريزة الدين المطلق ، الذي هو الشعور الوجداني بسلطان غيبي فوق قوى الكون والسنن والأسباب التي قام بهما نظام كل شيء في العالم ، فرب هذا السلطان هو فاطر السماوات والأرض وما فيهما ، والمصدر الذاتي للنفع والضر المحركين لشعور التعبد الفطري ، وطلب العرفان الغيبي ، فالعبادة الفطرية هي التوجه الوجداني إلى هذا الرب الغيبي في كل ما يعجز الإنسان عنه من نفع يحتاج إليه ويعجز عنه بكسبه ، ودفع ضر يمسه أو يخافه ويرى أنه يعجز عن دفعه بحوله وقوته ، وفي كل ما تشعر فطرته باستعدادها لمعرفته والوصول إليه مما لا نهاية له .
وأعني بالإنسان جنسه ، فما يعجز عنه المرء بنفسه دون أبناء جنسه فإنه يعده من مقدوره ، ويعد مساعدة غيره له من جنس كسبه ، فطلبه للمساعدة من أمثاله ليس فيها معنى التعبد عند أحد من البشر - فتعظيم الفقير للغني بوسائل استجدائه ، وخضوع الضعيف للقوي لاستنجاده واستعدائه على أعدائه ، وخنوع السوقة للملك أو الأمير لخوفهم منه أو رجائه - لا يسمى شيء من ذلك عبادة في عرف أمة من الأمم ولا ملة من الملل ، وإنما روح العبادة الفطرية ومخها هو دعاء ذي السلطان العلوي والقدرة الغيبية ، التي هي فوق ما يعرفه الإنسان ويعقله في عالم الأسباب ، ولاسيما الدعاء عند العجز والشدائد . قال - صلى الله عليه وسلم - : ( ( ) ) هكذا بصيغة الحصر ، أي هو الركن المعنوي الأعظم فيها لأنه روحها المفسر برواية ( ( الدعاء هو العبادة ) ) وكل تعظيم وتقرب قولي أوعملي لصاحب هذه القدرة والسلطان فهو عبادة له - هذا أصل دين الفطرة الغريزي في البشر . الدعاء مخ العبادة
وعلى هذا الأصل يبنى الدين التعليمي التشريعي ، الذي هو وضع إلهي يوحيه الله إلى رسله ، لئلا يضل عباده بضعف اجتهادهم واختلافهم في العمل بمقتضى غريزة الدين كما وقع بالفعل ، ولا يقبله البشر بالإذعان والوازع النفسي ، إلا إذا كان الملقن لهم إياه مؤيدا في تبليغه وتعليمه من صاحب ذلك السلطان الغيبي الأعلى ، والتصرف الذاتي المطلق في جميع العالم ، الذي تخضع له الأسباب والسنن فيه وهو لا يخضع لها ، وهو الله رب العالمين وقد شرحنا هذه الحقيقة مرارا ، وبينا في مواضع من التفسير والمنار معنى كون الإسلام دين الفطرة ، وأنه شرع لتكميل استعداد البشر للرقي في العلم والحكمة ، ومعرفة الله عز وجل المعدة إياهم لسعادة الآخرة ، فليس فيه شيء يصادمها .
[ ص: 202 ] فهذا الدين التعليمي حاجة من حاج الفطرة البشرية لا يتم كمالها النوعي بدونه ، فهو لنوع الإنسان كالعقل لأفراده كما حققه شيخنا الأستاذ الإمام .