( وما يتبع أكثرهم إلا ظنا ) هذا بيان لحال المشركين الاعتقادية ، في إثر إقامة أنواع [ ص: 298 ] الحجج على توحيد الربوبية والإلهية ، بأسلوب الأسئلة والأجوبة المفيدة للعلم ، والهادية إلى الحق ، ومنها أنه ليس في شركائهم من يهدي إلى الحق المطلوب في العقائد الدال على ارتقاء العقل وعلو النفس ، وهو أن أكثرهم لا يتبعون في شركهم وعبادتهم لغير ربهم ، ولا في إنكارهم للبعث ، وتكذيبهم للرسول - صلى الله عليه وسلم - إلا ضربا من ضروب الظن ، قد يكون ضعيفا كما يشير إليه تنكيره ، وذلك كاستبعاد غير المألوف ، وقياس الغائب والمجهول على الحاضر والمعروف ، وتقليد الآباء ثقة بهم وتعظيما لشأنهم أن يكونوا على باطل في اعتقادهم ، وضلال في أعمالهم ، وأما غير الأكثر فكانوا يعلمون أن ما جاءهم به الرسول هو الحق والهدى ، وأن أصنامهم وغيرها مما عبدوا لا تنفع ولا تشفع ، ولكنهم يجحدون بآيات الله ، ويكذبون رسوله عنادا واستكبارا في الأرض ، وضنا برياستهم وزعامتهم أن يهبطوا منها إلى اتباع من دونهم ثروة وقوة ومكانة في قومهم ، ويجوز أن يكون التعبير بالأكثر جاء على سنة القرآن في الحكم على الأمم والشعوب بالحق والعدل . فإنه تارة يحكم على أكثرهم ، وتارة يستثني من الاستغراق والإطلاق القليل منهم ، كما تقدم نظائره من قبل . فيكون الحكم على الأكثر للإشارة إلى أنه يقل فيهم ذو العلم ، فإن قيل : وما حكم الله في الظن ؟ فالجواب : ( إن الظن لا يغني من الحق شيئا ) من الإغناء ولو قليلا ، أي لا يجعل صاحبه غنيا بعلم اليقين في الحق ، فيكون أي الظن بدلا من اليقين في شيء مما يطلب فيه اليقين كالدين ؛ فإن الحق هو الأمر الثابت المتحقق الذي لا ريب في ثبوته وتحققه ، والمظنون وإن كان راجحا عند صاحبه عرضة للشك ، يتزلزل ويزول إذا عصفت به أي عاصفة من الشبهات ، والإغناء يتعدى بـ ( ( عن ) ) كقوله : ( ما أغنى عنكم جمعكم ) ( 7 : 48 ) ( ما أغنى عني ماليه ) ( 69 : 28 ) ( فما أغنت عنهم آلهتهم ) ( 11 : 101 ) وقد عدي هنا بـ ( ( من ) ) وفي مثله من سورة النجم ، وفي قوله في ظل دخان النار ( لا ظليل ولا يغني من اللهب ) ( 77 : 31 ) وقوله في الضريع من طعام أهلها : ( لا يسمن ولا يغني من جوع ) ( 88 : 7 ) فعدي بـ ( ( من ) ) لإفادة القلة أو لتضمنه معنى البدل أي إن ظل دخان النار لا وارف يمنع الحر ولا يغني من اللهب بأن يقلله أو يزيله ويكون بدلا منه ، وإن الضريع الذي هو طعام أهل النار لا يسمن البدن بالتغذية الكافية ، ولا يقلل الجوع أو يزيله فيكون بدلا من الطعام الرديء التغذية .
واستدل العلماء بهذه الآية هنا وفي سورة النجم على أن العلم اليقيني واجب في الاعتقاديات ، وأن ، ويدخل في الاعتقاديات الإيمان بوجوب أركان الإسلام وغيرها من الفرائض والواجبات القطعية ، والإيمان بتحريم المحظورات القطعية كذلك ، وقد بينا من قبل أن اليقين المشروط في صحة الإيمان شرعا هو اليقين اللغوي ، وهو [ ص: 299 ] الاعتقاد الصحيح الذي لا شك معه - لا المصطلح عليه عند نظار الفلسفة والمنطق المؤلف من علمين : ( أحدهما ) أن الشيء كذا ( والثاني ) أنه لا يمكن أن يكون إلا كذا . وأما قولهم : إن الإيمان المقلد غير صحيح ، ففيه أن الدليل الظني لا يثبت به الإيمان بالمظنون ، بل التصديق بالمظنون لا يسمى إيمانا . وإنما يعمل في الاجتهاديات خروجا من الحيرة والترجيح بهوى النفس . الأحكام العملية يكفي فيها الدليل الظني
( إن الله عليم بما يفعلون ) هذه قضية ثانية مستأنفة خاصة بالعمل ، شأنها أن يسأل عنها بعد القضية التي قبلها في الاعتقاد ، فهو يقول : إن الله عليم بما كانوا يفعلون بمقتضى اعتقاداتهم الظنية والقطعية ، فهو يحاسبهم ويجازيهم على كل عمل منها بحسبه ، فالجزاء على مخالفة الاعتقاد القطعي بصدق الرسول من تكذيب وجحود أشد أنواع الجزاء . ويليه التكذيب باتباع الظن كالتقليد . ومن تلك الأفعال الصد عن الإيمان وإيذاء الرسول - صلى الله عليه وسلم - والمؤمنين بأنواعه ، ومنها سائر الشرور والمعاصي الشخصية والاجتماعية كالقتل والفاحشة والسكر والربا إلخ .
والعبرة للمؤمنين بالقرآن في هذه الآية والتي قبلها ، وهما من آياته المحكمات في أصول الإيمان والإسلام ، أن يكون غرضه من حياته تزكية نفسه وتكميلها باتباع الحق في كل اعتقاد ، والهدى وهو الصلاح في كل عمل ، وبناؤهما على أساس العلم دون الظن وما دونه من الخرص والوهم ، فالعلم المفيد للحق والمبين للهدى في الدين هو ما كان قطعي الرواية والدلالة من الكتاب والسنة الذي قامت به الجماعة الأولى ، وهو الشرع العام الذي لا يجوز للمسلمين التفرق والاختلاف فيه ، فهو مناط وحدتهم ، ورابطة جامعتهم ، وما دونه مما لا يفيد إلا الظن فلا يؤخذ به في الاعتقاد ، وهو متروك للاجتهاد في الأعمال ، اجتهاد الأفراد في الأعمال الشخصية ، واجتهاد أولي الأمر في القضاء والإدارة والسياسة ، مع تقييدهم فيه بالشورى في استبانة العدل والمساواة والمصالح العامة ، كما فصلناه من قبل في مواضعه .
وقد غفل عن هذه القواعد بعض أئمة الفقه ، فحكم بتحريم بعض العادات المباحة في الأصل كلعب الشطرنج ، وكذا المستحبة كملاعبة الرجل لزوجه ، وسماع الغناء ، بشبهة أنها من الباطل أو من الضلال ، ولا يثبت تحريم شيء من ذلك بدليل ظني فضلا عن قطعي وفاقا المخالف فيه للرواية عن إمامه ، وأما المقلدون من المنتمين في الفقه إلى كل مذهب ، فقد حرموا على الناس ما لا يحصى بالرأي والأقيسة الوهمية ، التي هي دون الأدلة الظنية ، وهدي النبي - صلى الله عليه وسلم - في الشبهات الاحتياط كما صرح به في حديث : ( ( للقاضي أبي بكر بن العربي المالكي ) ) المتفق عليه ، واستفتاء ( الوجدان ) لحديث : ( ( استفت نفسك ) ) رواه الحلال بين والحرام بين في التاريخ . البخاري
[ ص: 300 ] وإنما الباطل من الأعمال ما ثبت بطلانه بدليل شرعي قطعي ، كما أن الحق فيها ما ثبتت حقيته بدليل قطعي ، وبينهما واسطة هي ما لا دليل فيه بخلاف الاعتقاد ، فإنه ليس فيه واسطة بين الحق والباطل ، ومن الأشياء العملية ما الأصل فيه الإباحة وهو النافع ، ومنه ما سكت الشارع عن فرضه وعن تحريمه وعن قواعد حدوده كما قال - صلى الله عليه وسلم - : ( ( ) ) كما في حديث وسكت عن أشياء رحمة بكم غير نسيان فلا تبحثوا عنها أبي ثعلبة في الأربعين النووية وقد حققنا هذا البحث في تفسير : ( لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم ) ( 5 : 101 ) من جزء التفسير السادس .
والذي أريد أن أذكر به كل مسلم هنا أنه لا يوجد الآن في الأرض دين متبع . ولا قانون دولي منفذ ، ولا نظام حزبي ولا جماعي ملتزم يفرض على الناس الحق والهدى فرضا دينيا ، والاعتماد في استبانتهما على العلم الصحيح ، وحصر الاجتهاد والترجيح فيما سواهما .
والاعتماد فيه على الوجدان في الشخصيات ، والشورى في المصالح العامة . ولن يصلح حال البشر الفردي ولا الاجتماعي والدولي إلا بهذه الأصول التي فرضها الإسلام ، وجعلها دينا يدان الله به ليس لأحد تجاوزه ، وقد عجزت علوم البشر على اتساعها ، وعقولهم على ارتقائها عن الاستغناء عنها بغيرها ، فهم كلما ازدادوا علما يزدادون باطلا وضلالا وبغيا ، خلافا لدعاة حضارتهم الكاذبين .
قال شيخ فلاسفة الأخلاق وعلم الاجتماع في هذا القرن ( وهو هربرت سبنسر الإنكليزي ) لحكيم الإسلام شيخنا الأستاذ الإمام ؟ إن فكرة الحق قد زالت من عقول أمم أوربة ألبتة ، فلا يعرفون حقا إلا للقوة ، وإن الأفكار المادية قد أفسدت أخلاقهم ، وإنه لا يرى من سبيل إلى علاجهم ، وإنه لا يزال بعضهم يختبط ببعض - ولعله ذكر الحرب - ليتبين أيهم الأقوى ليسود العالم .
وقد وقع ما توقعه هذا الحكيم في سنة 1903 بالحرب الكبرى مدة أربع سنين ( من 1914 - 1918 ) فازدادت الأمم والدول شقاء وفسادا وطغيانا وإباحة ، حتى جزم كثير من عقلائهم بأنه لا علاج لهذا الفساد في البشر إلا الهداية الروحية الدينية ، وسيعقدون لذلك مؤتمرا عاما في الولايات المتحدة الأميركانية ، ولن يجدوا العلاج المطلوب إلا في هذه الأصول من القرآن وما فصلناها به في مباحث ( الوحي المحمدي ) من هذا التفسير ، ثم جمعناه في كتاب مستقل مع زيادة في تفصيله ، فعسى أن يسبقهم المسلمون إلى العمل به ونشره .