الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                        معلومات الكتاب

                                                                                                        نصب الراية في تخريج أحاديث الهداية

                                                                                                        الزيلعي - جمال الدين عبد الله بن يوسف الزيلعي

                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                        [ ص: 268 ] قال : ( وإذا سلمه إليه فقبضه دخل في ضمانه ) وقال الشافعي رحمه الله هو أمانة في يده ولا يسقط شيء من الدين بهلاكه ، لقوله عليه الصلاة والسلام : { لا يغلق الرهن [ ص: 269 - 270 ] قالها ثلاثا : لصاحبه غنمه وعليه غرمه }قال ومعناه لا يصير مضمونا بالدين ولأن الرهن وثيقة بالدين فبهلاكه لا يسقط الدين اعتبارا بهلاك الصك وهذا لأن بعد الوثيقة يزداد معنى الصيانة ، والسقوط بالهلاك يضاد ما اقتضاه العقد إذ الحق به يصير بعرض الهلاك وهو ضد الصيانة ، ولنا { قول النبي عليه الصلاة والسلام للمرتهن بعدما نفق فرس الرهن عنده ذهب حقك }وقوله عليه الصلاة والسلام : { إذا عمي الرهن فهو بما فيه }معناه على ما قالوا إذا اشتبهت قيمة الرهن بعدما هلك . [ ص: 271 - 272 ] وإجماع الصحابة والتابعين رضي الله عنهم على أن الرهن مضمون مع اختلافهم في كيفيته فالقول بالأمانة خرق له ، والمراد بقوله عليه الصلاة والسلام : { لا يغلق الرهن }على ما قالوا الاحتباس الكلي والتمكن بأن يصير مملوكا له كذا ذكر الكرخي عن السلف ولأن الثابت للمرتهن يد الاستيفاء وهو ملك اليد ، والحبس لأن الرهن ينبئ عن الحبس الدائم ، قال الله تعالى : { كل نفس بما كسبت رهينة }وقال قائلهم :

                                                                                                        وفارقتك برهن لا فكاك له يوم الوداع فأمسى الرهن قد غلقا

                                                                                                        والأحكام الشرعية تنعطف على الألفاظ على وفق الأنباء ; ولأن الرهن وثيقة لجانب الاستيفاء وهو أن تكون موصولة إليه ; وذلك ثابت له بملك اليد والحبس ليقع الأمن من الجحود مخافة جحود المرتهن الرهن وليكون عاجزا عن الانتفاع به فيتسارع إلى قضاء الدين لحاجته أو لضجره وإذا كان كذلك يثبت الاستيفاء من وجه ، وقد تقرر بالهلاك فلو استوفاه ثانيا يؤدي إلى الربا بخلاف حالة القيام ، لأنه ينقض هذا الاستيفاء بالرد على الراهن ، فلا يتكرر ولا وجه إلى استيفاء الباقي بدونه لأنه لا يتصور والاستيفاء يقع بالمالية . أما العين فأمانة حتى كانت نفقة المرهون على الراهن في حياته وكفنه بعد مماته وكذا قبض الرهن لا ينوب عن قبض الشراء إذا اشتراه المرتهن لأن العين أمانة فلا تنوب عن قبض ضمان وموجب العقد ثبوت يد الاستيفاء وهذا يحقق الصيانة ، وإن كان فراغ الذمة من ضروراته كما في الحوالة . فالحاصل : أن عندنا حكم الرهن صيرورة الرهن محتبسا بدينه بإثبات يد الاستيفاء عليه . وعنده تعلق الدين بالعين استيفاء منه عينا بالبيع ويخرج على هذين الأصلين عدة من المسائل المختلف فيها بيننا وبينه عددناها في كفاية المنتهى جملة . منها : أن الراهن ممنوع عن الاسترداد للانتفاع لأنه يفوت موجبه وهو الاحتباس على الدوام وعنده لا يمنع منه لأنه لا ينافي موجبه وهو تعينه للبيع ، وسيأتيك البواقي في أثناء المسائل إن شاء الله تعالى .

                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                        الحديث الثاني :

                                                                                                        قال عليه السلام { لا يغلق الرهن قالها ثلاثا لصاحبه غنمه ، وعليه غرمه }; قلت : أخرجه ابن حبان في " صحيحه " في النوع الثالث والأربعين ، من القسم الثالث ; والحاكم في " المستدرك في البيوع " عن سفيان بن عيينة عن زياد بن سعد عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { لا يغلق الرهن ممن رهنه ، له غنمه وعليه غرمه } ، انتهى .

                                                                                                        قال الحاكم : هذا حديث صحيح ، أعلى الإسناد على شرط الشيخين ، ولم يخرجاه ، لاختلاف فيه على أصحاب الزهري ، وقد تابع زياد بن سعد على هذه الرواية مالك بن أنس ، وابن أبي ذئب ، وسليمان بن أبي داود الحراني ، ومحمد بن الوليد الزبيدي ، ومعمر بن راشد ، ثم أخرج أحاديثهم ; ورواه الدارقطني في " سننه " ، وقال : هذا إسناد حسن متصل ، وأخرجه أيضا عن عبد الله بن نصر الأصم الأنطاكي ثنا شبابة ثنا محمد بن عبد الرحمن [ ص: 269 ] بن أبي ذئب عن الزهري عن سعيد بن المسيب ، وأبي سلمة عن أبي هريرة مرفوعا ، فذكره ، وصححه عبد الحق في " أحكامه " من هذه الطريق ، قال ابن القطان : وأراه إنما تبع في ذلك أبا عمر بن عبد البر ، فإنه صححه ، وعبد الله بن نصر هذا لا أعرف ، وقد روى عنه جماعة ، وذكره ابن عدي في " كتابه " ، ولم يبين من حاله شيئا ، إلا أنه ذكر له أحاديث منكرة : منها هذا انتهى كلامه . وقال في " التنقيح " : عبد الله بن نصر الأصم البزار الأنطاكي ليس بذاك المعتمد ، وقد روى عن أبي بكر بن عياش ، وابن علية ، ومعن بن عيسى ، وابن فضيل ، وروى عنه أبو حاتم الرازي انتهى .

                                                                                                        وأخرجه أبو داود في " مراسيله " عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن النبي صلى الله عليه وسلم قال أبو داود : وقوله له غنمه ، وعليه غرمه من كلام سعيد ، نقله عنه الزهري ، وقال : هذا هو الصحيح انتهى .

                                                                                                        قلت : يؤيده ما رواه عبد الرزاق في " مصنفه " أخبرنا معمر عن الزهري عن ابن المسيب { أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : لا يغلق الرهن ممن رهنه } ، قلت للزهري : أرأيت قول الرجل : لا يغلق الرهن ، أهو الرجل يقول : إن لم آتك بمالك ، فالرهن لك ؟ قال : نعم ، قال معمر : ثم بلغني عنه أنه قال : إن هلك لم يذهب حق هذا ، إنما هلك من رب الرهن ، له غنمه ، وعليه غرمه انتهى . ثم أخرجه من قول النبي صلى الله عليه وسلم أخبرنا الثوري عن ابن أبي ذئب عن الزهري عن ابن المسيب ، قال : قال عليه السلام : { لا يغلق الرهن ممن رهنه ، له غنمه ، وعليه غرمه } ، انتهى .

                                                                                                        ولم يروه عبد الرزاق مسندا أصلا ، وكذلك ابن أبي شيبة في " مصنفه " حدثنا وكيع ثنا ابن أبي ذئب عن الزهري عن سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم وكذلك الشافعي في " مسنده " حدثنا محمد بن إسماعيل بن أبي فديك عن ابن أبي ذئب به ، وزاد في آخره : قال الشافعي : وغنمه زيادته ، وغرمه هلاكه ونقصه انتهى .

                                                                                                        وقد روي هذا الحديث متصلا أيضا من طرق أخرى عديدة ، ذكرها الدارقطني ، وأجود طرقه المتصلة ما ذكرناه ، قال صاحب " التنقيح " : وقد صحح اتصال هذا الحديث الدارقطني ، وابن عبد البر ، وعبد الحق وقد رواه أبو داود في " المراسيل " من رواية مالك ، وابن أبي ذئب ، والأوزاعي ، وغيرهم عن الزهري عن سعيد مرسلا ، وكذلك رواه الثوري ، وغيره عن ابن أبي ذئب مرسلا ، وهو المحفوظ انتهى .

                                                                                                        [ ص: 270 ] قوله : في " الكتاب " : قالها ثلاثا ، لم أجده في شيء من طرق الحديث . واعلم أن ابن الجوزي في " التحقيق " زاد في متن هذا الحديث ، قال إبراهيم النخعي : كانوا يرهنون ، ويقولون : إن جئتك بالمال إلى وقت كذا ، وإلا فهو لك ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم ذلك ، انتهى . وينظر الدارقطني هل فيه هذه الزيادة ؟ .

                                                                                                        الحديث الثالث : { قال عليه السلام للمرتهن بعدما نفق فرس الرهن عنده : ذهب حقك }; قلت : أخرجه أبو داود في " مراسيله " عن ابن المبارك عن مصعب بن ثابت ، قال : سمعت عطاء يحدث { أن رجلا رهن فرسا ، فنفق في يده ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للمرتهن : ذهب حقك }انتهى .

                                                                                                        ورواه ابن أبي شيبة في " مصنفه في أثناء البيوع " حدثنا عبد الله بن المبارك به ، قال عبد الحق في " أحكامه " ، وهو مرسل ، وضعيف ، قال ابن القطان في " كتابه " : ومصعب بن ثابت بن عبد الله بن الزبير ، ضعيف ، كثير الغلط ، وإن كان صدوقا انتهى . الحديث الرابع :

                                                                                                        قال عليه السلام : { إذا عمي الرهن فهو بما فيه }; قلت : روي مسندا ومرسلا .

                                                                                                        فالمسند : رواه الدارقطني في " سننه " حدثنا محمد بن مخلد ثنا أحمد بن غالب ثنا عبد الكريم بن روح عن هشام بن زياد عن حميد عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { الرهن بما فيه }انتهى .

                                                                                                        قال الدارقطني : هذا لا يثبت عن حميد ، ومن بينه وبين شيخنا كلهم ضعفاء ، ثم أخرجه عن إسماعيل بن أبي أمية ثنا حماد بن سلمة عن قتادة عن أنس [ ص: 271 ] مرفوعا نحوه ; قال : وهذا باطل عن حماد ، وقتادة ، وإسماعيل هذا يضع الحديث ، انتهى .

                                                                                                        قال ابن الجوزي في " التحقيق " : الأول فيه أحمد بن محمد بن غالب ، وهو غلام خليل ، كان كذابا ، يضع الحديث ، وعبد الكريم بن روح ضعفه الدارقطني ، وقال أبو حاتم الرازي : مجهول ، وهشام بن زياد ، قال يحيى : ليس بشيء ، وقال النسائي : متروك الحديث ; وقال ابن حبان : ينفرد عن الثقات بالمعضلات ، وفي الثاني : إسماعيل بن أبي أمية ، قال الدارقطني : يضع الحديث ، وسعيد بن راشد ، قال يحيى بن معين : ليس بشيء ، وقال النسائي : متروك الحديث ، وقال ابن حبان : لا يجوز الاحتجاج به انتهى .

                                                                                                        وأما المرسل : فرواه أبو داود في " مراسيله " عن علي بن سهل الرملي ثنا الوليد ثنا الأوزاعي عن عطاء عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { الرهن بما فيه }انتهى .

                                                                                                        قال ابن القطان : مرسل صحيح انتهى . وأخرجه أيضا عن طاوس مرفوعا ، نحوه سواء ، وأخرج أيضا عن أبي الزناد ، قال : إن ناسا يوهمون في قوله عليه السلام : الرهن بما فيه ، وإنما قال ذلك فيما أخبرنا الثقة من الفقهاء ، إذا هلك وعميت قيمته ، يقال حينئذ للذي رهنه : زعمت أن قيمته مائة دينار ، أسلمته بعشرين دينارا ، ورضيت بالرهن ، ويقال للآخر : زعمت أن ثمنه عشرة دنانير ، فقد رضيت به عوضا من عشرين دينارا ، وأخرج الطحاوي بسند صحيح عن أبي الزناد ، قال : أدركت من فقهائنا الذين ينتهى إلى قولهم : منهم سعيد بن المسيب ، وعروة بن الزبير ، والقاسم بن محمد ، وأبو بكر بن عبد الرحمن وخارجة بن زيد ، وعبيد الله في مشيخة من نظرائهم ، أهل فقه ، وصلاح ، وفضل ، فذكر ما جمع من أقاويلهم في كتابه على هذه الصفة ، أنهم قالوا : الرهن بما فيه ، إذا كان هلك ، وعميت قيمته ، ويرفع ذلك منهم الثقة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا : الرهن بما فيه انتهى . [ ص: 272 ] قوله : وإجماع الصحابة والتابعين على أن الرهن مضمون ، مع اختلافهم في [ ص: 273 ] كيفيته .




                                                                                                        الخدمات العلمية