الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                صفحة جزء
                [ ص: 309 ]

                قالوا : علم ما أوجب ، وما يفعل المكلف ، فكان واجبا معينا .

                قلنا : علمه تابع لإيجابه ، وهو غير معين المحل ، وإلا لعلمه على خلاف ما هو عليه ، وفعل المكلف يعين ما لم يكن متعينا .

                التالي السابق


                قوله : " قالوا : علم ما أوجب " إلى آخره . هذا دليل القائلين بأن الواجب في المخير واحد معين .

                وتقريره : أن الله سبحانه وتعالى يعلم ما أوجبه على المكلف من خصال الواجب المخير ، ويعلم الخصلة التي يؤديها المكلف ، فيكون معينا في علم الله تعالى .

                قوله : " قلنا : علمه تابع لإيجابه " إلى آخره . هذا جواب ما ذكروه على تعيين الواجب .

                وتقريره : أنا لا نمنع أن الله سبحانه وتعالى يعلم ما أوجب ، لكنا نقول : علمه تابع لإيجابه ، لأن العلم يتبع المعلوم ، أي : يتعلق به على ما هو عليه . وإيجابه سبحانه وتعالى غير معين المحل ، أي محل الإيجاب ، أي : متعلقه من أقسام الواجب غير معين ، لأنه لم يقل : من حنث ، فكفارة حنثه العتق بعينه مثلا ، والإطعام بعينه ، بل قال : كفارته إطعام أو كسوة أو عتق ، فثبت أن محل الإيجاب غير معين ، إذ لو كان معينا لعلمه على خلاف ما هو عليه ، لأنه مبهم في أقسام وهو [ ص: 310 ] سبحانه قد علمه معينا ، وذلك محال لاستلزامه انقلاب العلم جهلا ، فثبت أن الواجب المخير غير معين المحل ، وهو المراد بكونه أوجب واحدا غير معين .

                وأما فعل المكلف للعتق ، أو الإطعام ، أو الكسوة ، فليس فعلا لما كان معينا في علم الله سبحانه وتعالى ، بل هو تعيين لما لم يكن متعينا ، وقد علم سبحانه وتعالى أن المكلف سيعينه بفعله . فحاصل الجواب : أن الله سبحانه وتعالى علمه غير معين ، وعلم أنه سيتعين ، والعلم أنه سيتعين ليس في لفظ " المختصر " دلالة عليه .

                ثم قال الغزالي : لو أتى المكلف بالجميع ، أو ترك الجميع ، كيف يصح أن يكون المعين واحدا في علم الله تعالى ؟

                قلت : فإن قلت : هذا لا يرد ، لأن الخصم يقول : إنما يكون الواجب واحدا معينا في علم الله سبحانه وتعالى ، بالنسبة إلى من يعلم أنه سيعين واحدا بفعله ، وكذلك من أتى بالجميع ، فالمعين للوجوب في حقه واحد ، والزائد تطوع .

                قلنا : فمن ترك الجميع ، يلزم أن لا يجب عليه شيء أصلا .

                قلت : والذي رأيته في جواب هذا السؤال هو هذا ، وهو غير مرضي ، ووجه القدح فيه أن يقال : لا نسلم أن المكلف يعين بفعله ما لم يكن متعينا ، بل يؤدي ما كان متعينا في علم الله تعالى لوجهين :

                أحدهما : أن المكلف أدى ما أوجب عليه بالإجماع ، والذي أداه متعين في [ ص: 311 ] نفسه ، وفي علم الله سبحانه وتعالى . فليكن ما أوجبه الله تعالى عليه كذلك ، لأنه هو هو .

                الثاني : أن الله سبحانه وتعالى حين أوجبه ، إما أن لا يكون علم عين ما يفعله المكلف ، وهو باطل باتفاق علماء الشريعة على أن علم الله سبحانه وتعالى متعلق بجميع المعلومات ، كليها وجزئيها ، ماضيا وحالا ومستقبلا ، أو علم عين ما يفعله المكلف ، وحينئذ إما أن يكون متعلق الإيجاب هو عين متعلق العلم أو غيره ، فإن كان متعلق الإيجاب عين متعلق العلم ، فقد أوجبه معينا ، لأنه علمه معينا ، ومتعلقهما واحد ، فالواجب معين . وإن كان متعلق الإيجاب غير متعلق العلم ، لزم أن ما علمه غير ما أوجبه ، فالمكلف إنما أدى المعلوم لا الواجب ، وهو خلاف الإجماع على أنه أدى الواجب ، هذان الوجهان مقصودهما ، وإنما اختلف طريق تقريرهما والعبارة فيهما .

                والمختار في الجواب : أن الله سبحانه وتعالى يوجبه معينا بالإضافة إلى علمه به ، مبهما بالإضافة إلى علم المكلفين ، لكن موضوع النظر في المسألة إنما هو الإيجاب أو الواجب بالإضافة إلى علم المكلفين لا بالإضافة إلى علم الله سبحانه وتعالى . وهذا يشبه ما سبق تقريره في تكليف المكره ، من أن لله سبحانه وتعالى في خلقه تصريفين : تكويني يجري عليهم فيه ما لا يطيقونه ، وتكليفي لا يجري عليهم فيه إلا ما يطيقونه .

                وحاصل الجواب : أن ما اختص الله تعالى به عنا ، من علم وإرادة وغير ذلك ليس موضوع نظرنا ، ولا يمتنع أن يوجب علينا شيئا معينا في علمه ، مبهما في علمنا ، ويكون من ذوات الجهتين .




                الخدمات العلمية