الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                صفحة جزء
                [ ص: 348 ]

                الثاني : الزيادة على الواجب ، إن تميزت ، كصلاة التطوع بالنسبة إلى المكتوبات ، فندب اتفاقا ، وإن لم تتميز ، كالزيادة في الطمأنينة ، والركوع ، والسجود ، ومدة القيام ، والقعود على أقل الواجب ، فهو واجب عند القاضي ، ندب عند أبي الخطاب ، وهو الصواب ، وإلا لما جاز تركه . والندب لا يلزم بالشروع .

                التالي السابق


                قوله : " الثاني " يعني : الفرع الثاني من الفرعين على ما لا يتم الواجب إلا به ، فهو واجب . ووجه فرعيته : أن غير الواجب فيه لاحق له من آخره ، وفيما لا يتم الواجب إلا به هو لاحق له من أوله ، وكلاهما فيه اختلاف كما رأيت ، وسترى إن شاء الله تعالى .

                " الزيادة على الواجب " ، إما أن تكون متميزة عنه أو لا . " فإن تميزت " عنه " كصلاة التطوع بالنسبة إلى المكتوبات " فهي - يعني الزيادة المتميزة - " ندب اتفاقا " ، إذ لا نص في وجوبها ولا إجماع ، ولا جامع بينها وبين الواجب حتى تقاس عليه ، ولا اشتدت ملابستها للواجب حتى تلحق به ، ولا مدرك لثبوت الأحكام شرعا إلا هذه الأدلة : النص والإجماع والقياس ، والاستدلال .

                " وإن لم تتميز " الزيادة على الواجب ، أي : لا تنفصل حقيقتها من حقيقته حسا ، " كالزيادة في الطمأنينة والركوع والسجود ومدة القيام والقعود على أقل الواجب " ، وهو ما يطلق عليه اسم هذه الأفعال ، فهي - يعني الزيادة التي هذا شأنها - [ ص: 349 ] " واجب عند القاضي " أبي يعلى ، " ندب عند أبي الخطاب وهو الصواب " .

                قوله : " وإلا لما جاز تركه " ، أي : لو لم تكن هذه الزيادة ندبا " لما جاز تركه " أي : ترك الندب ، أو الفعل الذي تحققت به الزيادة ، لكن قد جاز تركه ، فلا يكون واجبا .

                بيان الملازمة أن عدم جواز الترك من لوازم الواجب وخواصه . فلو كانت هذه الزيادة واجبا لثبتت له هذه الخاصة ، وهي عدم جواز الترك ، لكنها ما ثبتت ، بدليل جواز الاقتصار على القدر المجزئ دونها ، وتركها بعد التلبس بها ، مثل : أن زاد في الركوع على الانحناء بحيث يمكنه مس ركبتيه بيديه ، وهو القدر المجزئ فيه ، ثم عاد إليه ، وإذا جاز تركه لا يكون واجبا ، لأن جواز الترك والوجوب متنافيان ، فيكون مندوبا .

                قوله : " والندب لا يلزم بالشروع " هذا استيفاء للدليل وجواب عن سؤال مقدر ، وهو أن هذه الزيادة يجوز تركها ، بمعنى الاقتصار على المجزئ دونها ، وتركها ابتداء ، فلم قلت : إنه إذا أتى بها على القدر المجزئ ، وتلبس بها لا تجب ، ولا يلزم من جواز الاقتصار دونها عدم وجوبها إذا تلبس بها ؟ فكان الجواب ما ذكرته ، وهو أنه لو وجبت بالتلبس بها ، لكان ذلك من باب لزوم النقل بالشروع فيه ، والندب عندنا لا يلزم بالشروع ، والقاضي يوافق على ذلك .

                حجة القاضي على الوجوب : أن نسبة الواجب والزيادة عليه إلى الأمر واحدة ، [ ص: 350 ] والأمر في نفسه أمر واحد ، وهو أمر إيجاب ، وأحدهما غير متميز من الآخر ، فانتظمهما انتظاما واحدا ، والكل امتثال .

                والجواب : أن أكثر هذه المقدمات ممنوعة ، إذ لا نسلم أن نسبتها إلى الأمر واحدة ، بل الواجب نسبته إليه بالوجوب ، والزيادة بالندبية . ولا نسلم أن الأمر في نفسه واحد ، وإنما هو واحد في لفظه ، أما في حقيقته فهو في تقدير أمرين : أحدهما جازم بالنسبة إلى الواجب ، والثاني غير جازم بالنسبة إلى الزيادة . ولا نسلم أنه انتظمهما انتظاما واحدا ، بل بالوجوب والندبية كما قررنا .

                واعلم أن لهذا الأصل مأخذا آخر ، وهو أن الأمر المعلق على الاسم : هل يقتضي الاقتصار على أول ذلك الاسم والباقي ساقط ، أو يقتضي استيعاب ذلك الاسم ؟

                فيه خلاف بين الأصوليين ، وأكثر من يلهج به المالكية ، والأول اختيار القاضي عبد الوهاب منهم ، وإن لم يكن هذا مأخذا لهذا الفرع ، وإلا فهو يشبهه .

                تنبيه : لو مسح جميع الرأس ، فعند من لا يرى وجوب استيعابه ، هل يقع مسح جميعه واجبا ، أو الزائد على المجزئ منه نفل ؟ على الخلاف . أما تطويل التحجيل في اليدين والرجلين ، فهو ندب بلا خلاف ، لتميزه بتمييز أجزاء محله ، وهو العضو المغسول ، وقد نقل مثل هذا في مسح الرأس ، ولا يتحقق الفرق بينهما ، وقد يجاب بأن معتمد الفرق غسل اليد محدود ، يعني بخلاف مسح [ ص: 351 ] الرأس .

                تنبيه : قال القرافي : ليس كل واجب يثاب على فعله ، ولا كل محرم يثاب على تركه .

                أما الأول : فكنفقات الزوجات والأقارب والدواب ، ورد الغصوب والودائع والديون والعواري ، فإنها واجبة ، وإذا فعلها الإنسان غافلا عن امتثال أمر الله تعالى فيها وقعت واجبة ، مجزئة ، مبرئة ، ولا يثاب عليها .

                وأما الثاني : فلأن المحرمات يخرج الإنسان عن عهدتها بمجرد تركها ، وإن لم يشعر ، فضلا عن القصد إليها ، حتى ينوي امتثال أمر الله تعالى فيها ، فلا ثواب حينئذ . نعم متى اقترن قصد الامتثال في الجميع حصل الثواب .

                قلت : هذا الكلام موهم ، بل ظاهر في أن الواجب على ضربين : أحدهما يترتب عليه الثواب ، والآخر لا يترتب عليه الثواب . وكذلك الحرام ضربان : ما يترتب على تركه الثواب ، وما ليس كذلك . وعندي في هذا نظر .

                بل التحقيق أن يقال : الواجب هو المأمور به جزما ، وشرط ترتب الثواب عليه نية التقرب بفعله ، والحرام هو المنهي عنه جزما ، وشرط ترتب الثواب على تركه نية التقرب به ، فترتب الثواب وعدمه في فعل الواجب وترك الحرام وعدمهما راجع إلى وجود شرط الثواب وعدمه ، وهو النية ، لا إلى انقسام الواجب والحرام في نفسهما . [ ص: 352 ]

                وأما قوله : المحرمات يخرج الإنسان عن عهدتها بمجرد تركها ، وإن لم يشعر ، ففيه تحقيق سبق في مسألة تكليف الكفار بفروع الإسلام .

                وقد انتهى الكلام في الواجب بحمد الله تعالى .




                الخدمات العلمية