الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                صفحة جزء
                [ ص: 750 ] الثالثة : نحو قوله صلى الله عليه وسلم : الشفعة فيما لم يقسم ، و تحريمها التكبير وتحليلها التسليم ، وأصله أن المفرد المحلى باللام هل يقتضي الاستغراق أم لا ؟ وتحليلها وتحريمها مضاف إلى ضمير عائد إلى الصلاة وفيها اللام ; فالكلام هنا كذلك .

                وقيل : لأن المحكوم به يجب أن يكون مساويا للمحكوم عليه أو أعم منه لا أخص ; فلو كان التسليم أخص من تحليل الصلاة لخرج عن موضوع اللغة .

                التالي السابق


                الصورة " الثالثة " : مما أنكره منكرو المفهوم بناء على أنها منه " نحو قوله عليه السلام : الشفعة فيما لم يقسم ، وقوله عليه السلام في الصلاة : تحريمها التكبير وتحليلها التسليم ، وقوله عليه السلام : الأعمال بالنيات ، ونحوه ، هل يدل على الحصر أم لا ؟ أثبته الغزالي والهراسي وجماعة من الفقهاء ، مع أنه في القوة دون الذي قبله ، ونفاه الحنفية ، والقاضي أبو بكر ، وجماعة من المتكلمين .

                قوله : " وأصله " ، أي : أصل النزاع في ذلك أو أصل الحكم فيه ، يعني [ ص: 751 ] في دليله " أن " الاسم " المفرد المحلى باللام " يعني لام التعريف " هل يقتضي الاستغراق أم لا ؟ " ; فمن قال : ليس للاستغراق ، لم يفد ذلك عنده الحصر ، وصار التقدير عنده : بعض الشفعة فيما لم يقسم ، وبعض الأعمال بالنيات .

                ومن قال : هو للاستغراق ، قال : إن ذلك يفيد الحصر والعموم ، ووجهه أن قوله : تحليلها وتحريمها ، مضاف إلى ضمير عائد إلى ما فيه اللام ، وهو الصلاة في قوله عليه الصلاة والسلام : مفتاح الصلاة الطهور ، وتحريمها التكبير ، والمضاف إلى ضمير ما فيه اللام ، مضاف إلى ما فيه اللام بواسطة ذلك الضمير .

                قوله : " فالكلام هنا كذلك " ، أي : الكلام الذي نحن فيه ، وهو : تحريمها التكبير وتحليلها التسليم كذلك ، أي : كالمضاف إلى ما فيه اللام ، أو كالذي فيه اللام ; فيكون ذلك من قبيل العام ، أي : عموم الشفعة ثابتة في المقسوم ، وعموم الأعمال منحصرة في الصحة ، أو الكمال في الوقوع بالنية .

                قوله : " وقيل : لأن المحكوم به " إلى آخره ، أي : " وقيل : " إنما أفاد هذا الحصر ; " لأن المحكوم به " - وهو الخبر - يجب أن يكون مساويا للمحكوم عليه - وهو المبتدأ - أو أعم منه ، لا أخص .

                مثال المساوي : قولنا : الإنسان بشر ، والحيوان الناطق إنسان ، أو الإنسان حيوان ناطق .

                [ ص: 752 ] ومثال الأعم : قولنا : الإنسان حيوان ; فالحيوان هو الخبر ، وهو أعم من الإنسان الذي هو المبتدأ ، وهذان صحيحان .

                ومثال الأخص : قولنا : الحيوان إنسان ; فهذا لا يصح ; لأن الخبر محكوم به على المبتدأ ، وشأن المحكوم به أن يكون صادقا على كل فرد من أفراد المحكوم عليه ، والحيوان صادق على كل فرد من أفراد الإنسان ، بخلاف العكس ; لأن الإنسان ليس صادقا على كل فرد من أفراد الحيوان ، إذ لا يصدق أن الفرس ، أو الجمل ، أو الطائر ، إنسان .

                وإذا ثبت أن خبر المبتدأ يجب أن يكون مساويا له أو أعم ; فتحليل الصلاة مبتدأ ، والتسليم خبره ; " فلو كان التسليم ، الذي هو الخبر ، أخص من تحليل الصلاة " ، لخرجت هذه الأخبار " عن موضوع اللغة " ، ودليل العقل ; فتعين أن يكون التسليم مساويا للتحليل ، أو أعم منه ، وعلى كلا التقديرين ، ينحصر التحليل في التسليم ، انحصار الإنسان في الحيوان الناطق في قولنا : الإنسان حيوان ناطق ، أو انحصاره في الحيوان في قولنا : الإنسان حيوان ، وكذا الكلام في التحريم مع التكبير ، والشفعة مع ما لم يقسم ، والأعمال في المنوي ، لانحصارها فيه انحصار المساوي في مساويه ، أو انحصار الأخص في الأعم .

                قلت : اعلم أني وجهت الحصر في " المختصر " في هذه المسألة بتوجيهين كما قررته ، والصواب أنهما توجيه واحد من مقدمتين :

                [ ص: 753 ] إحداهما : أن الاسم المفرد المعرف باللام ، يفيد الاستغراق .

                الثانية : أن الخبر يجب أن يكون مساويا للمبتدأ ، أو أعم منه .

                وتقريره على هذا : أن تحريمها وتحليلها في حكم المضاف إلى المفرد المعرف باللام ، والمفرد المعرف باللام يفيد الاستغراق ; فكذا ما أضيف إليه ; فتحريمها وتحليلها مبتدأ عام مستغرق ، والمبتدأ يجب أن يكون مساويا للخبر ، أو أخص منه ، وكل مساو لشيء ، أو أخص من شيء ، يجب أن ينحصر في ذلك الشيء ; فإذن التحليل يجب انحصاره في التسليم ، والتحريم يجب انحصاره في التكبير ; فلا يحصلان إلا بهما ، والشفعة يجب انحصارها فيما لم يقسم ; فلا تجب إلا فيه ، والأعمال يجب انحصارها في المنوي ; فلا تصح أو لا تكمل إلا بالنية ، ولكني وهمت في توجيه المسألة ; فجعلت كل مقدمة من مقدمتي دليلها دليلا ، والله تعالى أعلم بالصواب .

                فوائد : الحصر ومفهوم المخالفة : كلاهما إثبات نقيض المنطوق به للمسكوت عنه ، لا ضده ; لأن الحاصل من المفهوم سلب حكم المنطوق ، كسلب وجوب الزكاة الثابت في السائمة عن المعلوفة ، والنقيض أعم من الضد ، كما مر في موضعه ، وبهذا يضعف استدلال من استدل على وجوب الصلاة على موتى المسلمين ، بمفهوم تحريم الصلاة على المنافقين ، في قوله عز وجل : ولا تصل على أحد منهم مات أبدا [ التوبة : 84 ] ; لأن المفهوم من ذلك وجوب الصلاة على المسلمين ، بل المفهوم منه سلب تحريمها على المسلمين ، وذلك أعم من أن تكون مباحة أو واجبة .

                [ ص: 754 ] الفائدة الثانية : صيغ الحصر : " إنما " ، نحو : إنما الماء من الماء .

                وتقدم النفي قبل " إلا " ، نحو : لا يقبل الله صلاة إلا بطهور .

                وتقديم المعمولات ، نحو : إياك نعبد [ الفاتحة : 5 ] ، أي : لا نعبد إلا إياك ، وهم بأمره يعملون [ الأنبياء : 27 ] ، أي : لا يعملون إلا بأمره .

                والمبتدأ مع الخبر ، نحو : تحريمها التكبير ، وتحليلها التسليم .

                وينقسم إلى حصر الموصوفات في الصفات ، نحو : إنما زيد العالم ، وإلى حصر الصفات في الموصوفات ، نحو إنما العالم زيد ، وعلى التقديرين ; فقد تعم جهات الحصر ، وقد تخص كما سبق .

                الفائدة الثالثة من باب الحصر : قولهم : زيد صديقي ، وصديقي زيد ; فالأول يقتضي انحصار زيد في صداقتك ; فلا يصادق غيرك ، وأنت يجوز أن تصادق غيره ، والثاني يقتضي انحصار أصدقائك في زيد ، وهو غير منحصر في صداقتك ، بل يجوز أن يصادق غيرك .

                قلت : ويترتب على هذا فائدة دقيقة ، وهي أنا قد قررنا أن خبر المبتدأ يجب أن يكون أعم ، أو مساويا للمبتدأ وصديقي أعم من زيد ، ثم هو تارة مقدم ، وتارة مؤخر ; فلو كان مقدما على حالة مؤخرا ، لزم أن يكون الخبر أخص من المبتدأ في قولنا : صديقي زيد ; فتختل القاعدة التي قررت ; فلزم [ ص: 755 ] من هذا أن العموم والخصوص وصف عرضي ، يختلف بالتقديم والتأخير ، وأن اللفظ الواحد يكون أعم مؤخرا ، وأخص مقدما ، ووجهه ظاهر ، وهو أنه إذا قدم تخصص بالعناية والاهتمام به ، ليوضع محكوما عليه ، والله تعالى أعلم .




                الخدمات العلمية