الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                صفحة جزء
                [ ص: 94 ] ولا تشترط عدالة المخبرين ، ولا إسلامهم ; لأن مناط حصول العلم الكثرة ، ولا عدم انحصارهم في بلد ، أو عدد ، لحصول العلم بإخبار الحجيج ، وأهل الجامع ، عن صاد عن الحج ، أو مانع من الصلاة ، ولا عدم اتحاد الدين والنسب لذلك ، ولا عدم اعتقاد نقيض المخبر به ، خلافا للمرتضى .

                وكتمان أهل التواتر ما يحتاج إلى نقله ممتنع ، خلافا للإمامية ، لاعتقادهم كتمان النص على إمامة علي . لنا : أنه كتواطئهم على الكذب ، وهو محال .

                قالوا : ترك النصارى نقل كلام عيسى في المهد . قلنا : لأنه كان قبل نبوته واتباعهم له ، وقد نقل أن حاضري كلامه لم يكونوا كثيرين .

                وفي جواز الكذب على عدد التواتر خلاف ، الأظهر المنع عادة ، وهو مأخذ المسألة المذكورة .

                التالي السابق


                قوله : " ولا تشترط عدالة المخبرين ولا إسلامهم " ، يعني في التواتر ; لأن مناط حصول العلم كثرتهم ، بحيث لا يجوز عادة تواطؤهم على الكذب ، لا العدالة والإسلام وسائر أوصاف الرواية ; لأن ذلك إنما يشترط في الشهادات ; وأخبار الآحاد ; لأنها إنما تفيد الظن ، أما التواتر فهو مفيد للعلم الضروري أو النظري كما سبق ; فهو مستغن عن اعتبار أوصاف المخبرين المرادة ; لتقوية الظن وغلبته .

                فإن قيل : فلم لم تقبلوا أخبار اليهود والنصارى على كثرتهم ; بأن شرعهم باق أبدا لا ينسخ ، ونحوه من الأخبار القادحة في دين الإسلام ؟

                قلنا : لوجهين :

                أحدهما : ما سبق من اختلال عدد التواتر في أخبارهم لقلتهم .

                الثاني : أنا قد بينا أن حصول العلم هو الدليل على حصول العدد ، ونحن لم يحصل لنا العلم بصحة ما قالوا ; فعلمنا جزما أن العدد لم يحصل ، إذ ما لا دليل عليه [ ص: 95 ] لا استناد إليه ، وأكثر ما ينقلونه من موضوعاتهم ، وموضوعات الزنادقة لهم ، كابن الراوندي ونحوه ; فإنه يقال : هو الذي نبههم أن يحكوا عن موسى عليه السلام أنه قال : تمسكوا بالسبت ، أو شريعتي باقية ما دامت السماوات والأرض .

                قوله : " ولا عدم انحصارهم " ، أي : ولا يشترط أيضا في التواتر عدم انحصار المخبرين في بلد ، أو عدد أي : لا يشترط أن يكونوا بحيث لا يحصرهم عدد ولا بلد ، لانتشارهم وتفرقهم في البلدان ، " لحصول العلم بإخبار الحجيج ، وأهل الجامع ، عن صاد عن الحج ، أو مانع من الصلاة " يعني أن الناس المجتمعين في الحجيج ، لو أخبروا أنه عرض لهم مانع من الحج في عامهم ذلك ، كعدو صدهم عن البيت ، أو فتنة وقعت ، أو غور عيون الماء في الطريق ، ونحو ذلك ; لحصل لنا العلم بخبرهم ، مع أنهم محصورون تحت عدد يمكن معرفته لمن أراده ، وكذلك أهل الجامع يوم الجمعة ، لو أخبروا بوجود مانع من الصلاة ، كفقد الإمام من بينهم ، أو وقوع الخطيب عن المنبر ، أو هجوم عدو ونحوه ، حصل العلم بخبرهم ، مع انحصارهم تحت العدد ، وفي مسجد ; فضلا عن بلد .

                قوله : " ولا عدم اتحاد الدين والنسب " ، أي : ولا يشترط في عدد التواتر اختلاف دينهم ونسبهم لذلك أي : لما ذكر في عدم اشتراط انحصارهم في عدد أو بلد .

                قلت : هذا وهم في " المختصر " ; لأن ما ذكرناه على عدم اشتراط انحصارهم في عدد أو بلد ، لا يدل على اشتراط اختلاف دينهم ونسبهم ، بل الدليل على ذلك : [ ص: 96 ] أنه لو أخبرنا جماعة من اليهود ، أو النصارى ، أو غيرهم من الكفار ، وحصلت شروط التواتر فيهم ; لجاز أن يحصل لنا العلم بخبرهم ، وذلك ينفي اشتراط اتحاد الدين ، ولأنا قد بينا أن العلم التواتري يخلقه الله تعالى عند إخبار المخبرين ، وكما جاز أن يخلقه مع اختلاف الدين والنسب والبلد ، جاز أن يخلقه مع اتحادها .

                وإنما اشترط هذا الشرط اليهود - لعنهم الله - ليقدحوا في أخبار النصارى بمعجزات المسيح ، وفي أخبار المسلمين بمعجزات محمد ، عليهما السلام ; لأن كل واحدة من الطائفتين منحصرة في دين واحد . أما اليهود عليهم اللعنة ; فقد أمنوا ذلك ; لأن الطائفتين الأخريين يوافقونهم في المخبرين على معجزات موسى عليه السلام ونبوته ، ولذلك اشترطوا في المخبرين أن يكونوا من أهل الذلة ، يعني : ليمكن الرد عليهم لو كذبوا ، بخلاف من له عز ومنعة وظهور ; فإنه يخشى من الرد عليه ; فجعلوا هذا الشرط قادحا في أخبار النصارى والمسلمين عن معجزات عيسى ومحمد عليهما السلام ; لأن اليهود منذ آذوا المسيح ، استولت عليهم النصارى ; فأذلتهم وقمعتهم ، وضربت عليهم الذلة والمسكنة ، كما أخبر الله تعالى عنهم ، فلم يزالوا معهم أذلة حتى ظهر محمد ، - صلى الله عليه وسلم - ; فآذوه وكذبوه ; فأكمل الله تعالى ذلتهم به وقررها ; فهي كذلك حتى الساعة ، فلما رأوا ذلك ، جعلوا عزة المسلمين وقوتهم مظنة تهمة قادحة في أخبارهم ، من الوجه الذي ذكرناه .

                قوله : " ولا عدم اعتقاد نقيض المخبر به ، خلافا للمرتضى " ، أي : ولا يشترط في إفادة التواتر العلم خلو السامع من نقيض المخبر به ، بل سواء كان السامع يعتقد نقيض المخبر به ، أو لا يعتقده ، فإن العلم بالتواتر حاصل بحكم إجراء الله تعالى [ ص: 97 ] العادة بذلك ; فإنا نعلم بالضرورة أنه لا فرق في حصول العلم بمكة وبغداد ، وموسى وفرعون وكسرى وقيصر ، وفتح مكة وعكة ، وغيرها من القضايا التواترية ، بين من كان يعتقد نقيض ذلك لو تصور ، ومن لا يعتقده ، لكن هذا محل النزاع ; فللخصم أن يمنعه .

                وقال المرتضى من الشيعة : إن عدم اعتقاد السامع نقيض المخبر به شرط في إفادة التواتر العلم . ولقوله توجيه وفائدة .

                أما توجيهه : فهو أن القلب محل العلم ، فإذا استقر فيه نقيض المخبر به ، جاء المخبر به بعد ذلك دخيلا عليه ، ضعيفا بالنسبة إليه ; فلا يقوى على دفعه ، ولا يمكنه الاجتماع مع نقيضه ; فيرجع مكسورا ، ويبقى نقيضه مستوليا على محل العلم ، بخلاف ما إذا كان القلب خاليا من نقيض المخبر به ; فإنه حينئذ يصادف محلا فارغا ، لا منازع فيه ، ولا ممانع عنه ; فيستقر فيه ، وفي مثل هذا يقول الشاعر :


                دهاني هواها قبل أن أعرف الهوى فصادف قلبا فارغا فتمكنا

                وأما فائدة قوله فهو : أن الشيعة يدعون النص المتواتر على إمامة علي رضي الله عنه ، وإنما منع الجمهور من حصول العلم به اعتقادهم لنقيضه ، وهو إمامة أبي بكر [ ص: 98 ] رضي الله عنه .

                قلت : الجواب عن التوجيه المذكور : أنه - فيما أحسب - مبني على أن العلم التواتري حاصل عن خبر التواتر على جهة التولد ; فيستحيل أن يتولد العلم في محل نقيضه أو ضده ، ونحن قد بينا أنه إنما يحصل بخلق الله تعالى عند الإخبار ، وحينئذ نقول : كما جاز أن يخلقه مع عدم وجود نقيضه ، جاز أن يخلقه مع وجود نقيضه في القلب ، ويجعل له من القوة ما يدفع النقيض ، ويستقر هو مكانه ، كما يدفع اليقين الشك والظن ، خصوصا والاعتقاد أضعف من العلم التواتري على ما لا يخفى ; فيقوى العلم على رفعه ، وكما هو مشاهد في المحسوسات ، فإن الملك الغريب القوي يأتي ملك بعض الأقاليم في مملكته وجنوده وحصونه ; فيخرجه منها ، ويخلفه فيها ، قال الله سبحانه وتعالى : فأخرجناهم من جنات وعيون وكنوز ومقام كريم كذلك وأورثناها بني إسرائيل [ الشعراء : 57 - 59 ] ، وقال تعالى : إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها وجعلوا أعزة أهلها أذلة وكذلك يفعلون [ النمل : 34 ] ، ولأن الكفر والإيمان متناقضان ، وإنما يصدران عن اعتقاد صحتهما ، ثم قد جاز بالضرورة اندفاع الكفر بالإيمان ، واندفاع الإيمان بالكفر ، مع استوائهما في كونهما صادرين عن اعتقاد ; فاندفاع نقيض المخبر به بالعلم التواتري أولى .

                والجواب عن الفائدة المذكورة : هو أن الحق أن النص الجلي لم يوجد ، لا على أبي بكر ، ولا على علي ، إذ لو وقع ذلك ، استحال في العادة خفاؤه ، إذ كان من الوقائع العظيمة التي تتوفر الدواعي على نقلها ، وإنما وقع في ذلك آحاد ، منها ظاهر [ ص: 99 ] الدلالة ، ومنها خفي الدلالة ، كقوله عليه السلام : اقتدوا باللذين من بعدي : أبي بكر وعمر . رضي الله عنهما ، وقوله في علي رضي الله عنه : أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي . وما قال فيه يوم " غدير خم " وفيه لكل واحدة من الطائفتين متمسك من ذلك ، ثم ما ذكره معارض بمثله من جهة الجمهور ، وهو أن يقال : إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نص على إمامة أبي بكر رضي الله عنه نصا جليا متواترا ، [ ص: 100 ] وإنما منع الشيعة من حصول العلم اعتقادهم لنقيضه ، وهو إمامة علي رضي الله عنه ، وليس أحد القولين أولى من الآخر ; فلا يبقى حينئذ لقول المرتضى توجيه ولا فائدة ، ولذلك اشترطت الشيعة ، وابن الراوندي أن يكون في المخبرين الإمام المعصوم ، ليكون خبرهم معصوما من الخطأ ، وهو باطل .

                أما أولا : فلأنهم منازعون في وجود العصمة في غير الملائكة والرسل .

                وأما ثانيا : فلأن عصمة خبرهم من الكذب مستندة إلى كثرتهم ، لا إلى أوصافهم ، وإلا لاشترطت العدالة والإسلام ، ولأن العلم مخلوق لله تعالى ، مقارنا للإخبار ; فكما جاز خلقه مع إخبار المعصوم ، جاز خلقه مع إخبار الموصوم .

                ثم يلزمهم أن لا يوجد في بلاد الكفر تواتر ، إذ لا معصوم فيهم ، اللهم إلا أن لا يشترطوا للعصمة الإسلام ، فإن عقولهم أسخف من هذا .

                قوله : " وكتمان أهل التواتر ما يحتاج إلى نقله ممتنع خلافا للإمامية " ، أي : إن أهل التواتر - وهو العدد الذي يحصل العلم التواتري بخبرهم - هل يجوز أن يكتموا ما تدعو الحاجة إلى نقله ؟

                فالجمهور قالوا : لا يجوز .

                وقالت الإمامية - وهم أشهر طوائف الشيعة - : يجوز ذلك ، لاعتقادهم كتمان النص على إمامة علي رضي الله عنه ، أي : لأنهم يعتقدون أن الصحابة رضي الله عنهم - مع كثرتهم - كتموا النص على إمامة علي ، والوقوع يدل على الجواز قطعا .

                " لنا " : أن كتمانهم لما يحتاج إلى نقله " كتواطئهم على الكذب " وتواطؤهم على الكذب بكتمانهم لما يحتاج إلى نقله محال .

                أما الأولى : فلأن كتمان الواقع - خصوصا مع الحاجة إلى نقله - بمثابة قولهم : [ ص: 101 ] ما وقع ، وقولهم لما وقع : إنه ما وقع ; كذب قطعا ; لأن الكذب هو الإخبار بخلاف الواقع ، وهذا كذلك ; فكذلك الكتمان الذي هو بمثابة قولهم : ما وقع .

                أما أن تواطؤهم على الكذب محال ; فلما سيأتي عن قريب إن شاء الله تعالى . وهذا معنى قوله : " لنا : أنه كتواطئهم على الكذب ، وهو محال " .

                قوله : " قالوا : ترك النصارى نقل كلام عيسى في المهد " . هذه شبهة الإمامية على جواز كتمان أهل التواتر ما يحتاج إلى نقله .

                وتقريرها : أن النصارى تركوا نقل كلام عيسى في المهد ، حتى لم يتواتر عندهم ، مع أنه مما يحتاج إلى نقله ، وتتوفر الدواعي عليه ; فهذه صورة من صور الدعوى قد وقعت ، وهي تدل على جواز الدعوى .

                قوله : " قلنا : لأنه كان قبل نبوته واتباعهم له " ، هذا جواب عن شبههم ، وهو من وجوه :

                أحدها : أن كلامه في المهد كان قبل نبوته ، والدواعي إنما تتوفر على نقل أعلام النبوة .

                قلت : وهذا ضعيف ; لأن كلامه في المهد كان من خوارق العادات قبل نبوته ، والدواعي تتوفر على نقل مثله عادة ، وإن لم يكن الناقلون أتباعا للمنقول عنه .

                الوجه الثاني : أنه قد نقل أن حاضري كلام المسيح في المهد لم يكونوا كثيرين ، بحيث يحصل العلم بخبرهم ، بل إنما كانوا زكريا وأهل مريم ، ومن يختص بهم ; فلذلك لم ينقل متواترا ، ولا يلزم من عدم تواتره عدم نقله مطلقا ، لجواز أنهم نقلوه ولم يتواتر .

                الوجه الثالث ، ولم يذكر في " المختصر " : أنا لا نسلم أنهم لم ينقلوه ، بل نقلوه ، وهو متواتر عندهم في إنجيل الصبوة ، يعني الذي ذكر فيه أحوال عيسى في صبوته ، [ ص: 102 ] منذ ولد إلى أن رفع ، وإنما لم يتواتر نقلهم لذلك عندنا لعدم مشاركتنا لهم في سببه ، أو لاستغنائنا عنه بتواتر القرآن .

                قوله : " وفي جواز الكذب على عدد التواتر خلاف " ، أي : هل يجوز على عدد التواتر الكذب في خبره جوازا عقليا ؟ اختلفوا فيه ، والأظهر : المنع من جواز الكذب عليهم في العادة ، لا لذاته ، إذ لا يلزم من فرض وقوعه منهم محال لذاته ، وإنما يمتنع ذلك عليهم عادة ; فهو من الممتنعات العادية ، كانقلاب الحجر ذهبا ، والبحر لبنا وعسلا ، لا من الممتنعات لذاتها .

                قوله : " وهو مأخذ المسألة المذكورة " ، أعني جواز كتمان أهل التواتر ما يحتاج إلى نقله . فإن قلنا بجواز الكذب عليهم ، جاز عليهم الكتمان المذكور ; لأنه كذب أو في معناه كما سبق تقريره ، وإن قلنا : لا يجوز عليهم الكذب ، لم يجز الكتمان المذكور ، والله تعالى أعلم بالصواب .




                الخدمات العلمية