الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                صفحة جزء
                [ ص: 411 ] التاسعة : ما ثبت في حقه عليه السلام من الأحكام ، أو خوطب به ، نحو : ياأيها المزمل [ المزمل : 1 ] ، تناول أمته ، وما توجه إلى صحابي تناول غيره حتى النبي صلى الله عليه وسلم ، ما لم يقم دليل مخصص عند القاضي ، وبعض المالكية والشافعية ، وقال أبو الخطاب والتميمي وبعض الشافعية : يختص الحكم بمن توجه إليه إلا أن يعم .

                لنا : قوله تعالى : زوجناكها لكي لا يكون على المؤمنين حرج [ الأحزاب : 37 ] ، وأيضا خالصة لك من دون المؤمنين [ الأحزاب : 50 ] ، دل على تناول الحكم لهم لولا التخصيص ، وإلا كان عبثا ، وقوله عليه السلام : خطابي للواحد ، خطابي للجماعة ، وأجمع الصحابة على الرجوع في القضايا العامة إلى قضاياه الخاصة ، ولولا صحة ما قلناه ، لكان خطأ منهم لجواز اختصاص قضاياه بمجالها ، وقال صلى الله عليه وسلم : إني لأرجو أن أكون أخشاكم لله ، وأعلمكم بما أتقي . في جواب قولهم له : لست مثلنا ; فدل على التساوي .

                قالوا : أمر السيد بعض عبيده يختص به دون باقيهم ، وأمر الله عز وجل بعبادة لا يتناول غيرها ، والعموم لا يفيد الخصوص بمطلقه ، فكذا العكس ، وكأن الخلاف لفظي ، إذ هؤلاء يتمسكون بالمقتضى اللغوي ، والأولون بالواقع الشرعي .

                التالي السابق


                المسألة " التاسعة : ما ثبت في حقه " يعني النبي صلى الله عليه وسلم ، من الأحكام أو " خوطب به " من الكلام " نحو : ياأيها المزمل [ المزمل : 1 ] ، ياأيها المدثر [ المدثر : 1 ] ، تناول أمته " ، أي : ثبت في حقهم منه ما ثبت في حقه ، وكذلك " ما توجه إلى صحابي من الخطاب " ، تناول غيره " من المكلفين " ، الصحابة وغيرهم ، " حتى النبي ، صلى الله عليه وسلم " ، أي : حتى إنه يتناول النبي ، صلى الله عليه وسلم ، " ما لم يقم دليل مخصص " ، يعني للنبي ، صلى الله عليه وسلم ، بما ثبت في حقه [ ص: 412 ] كوجوب السواك والضحى والوتر ، أو بما خوطب به ، نحو : ياأيها النبي إنا أحللنا لك أزواجك إلى قوله : خالصة لك من دون المؤمنين [ الأحزاب : 50 ] ، أو للصحابي بما توجه إليه دون غيره ، كقوله عليه السلام لأبي بردة : تجزئك ولا تجزئ أحدا بعدك .

                وحاصل الكلام : إنه إن قام دليل مخصص ، اختص الحكم بمن دل عليه الدليل ; وإلا كان الحكم بما ثبت في حقه عليه السلام ، أو خوطب به هو ، أو بعض الصحابة ، عاما لجميع المكلفين " عند القاضي ، وبعض المالكية ، والشافعية . [ ص: 413 ] وقال أبو الخطاب " ، وأبو الحسن التميمي من أصحابنا ، وبعض الشافعية : يختص الحكم بمن توجه إليه ، من النبي صلى الله عليه وسلم ، أو غيره ، إلا بمعمم ، أي : إلا أن يقوم دليل كونه عاما للجميع ; فهؤلاء عكس الأولين; لأن هؤلاء يقولون : يخص الحكم من توجه إليه إلا لدليل معمم ، وأولئك يقولون : يعم الحكم من توجه إليه وغيره ، إلا لدليل مخصص .

                - قوله : " لنا : قوله تعالى : زوجناكها " إلى آخره . هذا حجة القائلين بالتعميم ، وهو من وجوه :

                أحدها : قوله عز وجل : فلما قضى زيد منها وطرا زوجناكها لكي لا يكون على المؤمنين حرج في أزواج أدعيائهم إذا قضوا منهن وطرا [ الأحزاب : 37 ] ; فأخبر سبحانه وتعالى ، أنه إنما أباح لنبيه زوجة ابنه بالتبني ، ليتأسى به المؤمنون ، رفعا للحرج عنهم ; فلولا أن ما ثبت في حقه يتناول غيره ، لكان هذا التعليل عبثا .

                ولقائل أن يقول : التعليل المذكور في الآية ، هو دليل التعميم ، والنزاع إنما هو عند عدم دليل التعميم .

                الوجه الثاني : قوله تعالى : وامرأة مؤمنة إن وهبت نفسها للنبي إن أراد النبي أن يستنكحها خالصة لك من دون المؤمنين [ الأحزاب : 50 ] ، ووجه دلالته أنه لولا تناول ما ثبت في حقه أمته ; لكان هذا التخصيص عبثا غير مفيد ; لأن اختصاصه بالحكم على هذا التقدير ، يكون ثابتا بالوضع أو [ ص: 414 ] العرف ; فيبقى قوله عز وجل : خالصة لك من دون المؤمنين غير مفيد فائدة زائدة ; فيكون وجوده كعدمه ، وهو عبث ، محال على الله عز وجل .

                فإن قيل : هو تأكيد لما اقتضاه الخطاب له من الاختصاص .

                قلنا : حملنا له على التأسيس وهو إفادة التخصيص أولى ، لاستقلاله بالفائدة .

                الوجه الثالث : قوله عليه السلام : خطابي للواحد خطابي للجماعة ، ويروى : حكمي على الواحد حكمي على الجماعة ، وهو نص في أن ما توجه إلى صحابي تناول غيره ، ومما يناسب هذا ويقويه ، ما روي عن النبي ، صلى الله عليه وسلم ، أنه كان لا يمس جسده جسد امرأة ، إلا زوجة أو ملك يمين ، وكان النساء عند المبايعة ربما أردن مصافحته للبيعة فيمتنع ، ويقول : قد بايعتكن . ويقول : إنما قولي لامرأة واحدة كقولي لألف امرأة . أو نحو من هذا ، والله [ ص: 415 ] تعالى أعلم بالصواب .

                الوجه الرابع : أن الصحابة رضي الله عنهم أجمعوا على الرجوع في قضاياهم العامة إلى قضايا النبي صلى الله عليه وسلم ، الخاصة ، كرجوعهم في حد الزاني إلى قصة ماعز ، وفي دية الجنين إلى حديث حمل بن مالك ، وفي المفوضة إلى قصة بروع بنت واشق ، وفي السكنى والنفقة إلى حديث فاطمة بنت قيس ، وفريعة بنت مالك .

                قال الشيخ أبو محمد : وإلى حديث صفية الأنصارية ، في سقوط طواف الوداع عن الحائض .

                [ ص: 416 ] قلت : وإنما هي صفية بنت حيي ، أم المؤمنين ، كذا رواه الترمذي وغيره من حديث عائشة رضي الله عنها . وإذا ثبت هذا ; فلولا أن ما توجه إلى بعض الأمة يتناول غيره ، لكان ذلك خطأ من الصحابة ، حيث رجعوا في أحكامهم العامة إلى أحكامه الخاصة ، لجواز اختصاص قضاياه بمحالها ، التي وردت فيها ، بل لوجوب ذلك عند الخصم ; فيكون الخطأ أشد وأشنع ، لكن الصحابة أجمعوا على ذلك ، وقد شهد النبي صلى الله عليه وسلم ، لهم بالهداية ، والإجماع مطلقا بالعصمة من الخطأ ، وذلك يقتضي عموم ما ذكرناه من عموم الحكم ، وإن توجه إلى واحد .

                [ ص: 417 ] الوجه الخامس : أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم ; فقال : تدركني الصلاة وأنا جنب ، أفأصوم ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : وأنا تدركني الصلاة وأنا جنب فأصوم ; فقال : لست مثلنا يا رسول الله ، قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر ; فقال : والله إني لأرجو أن أكون أخشاكم لله ، وأعلمكم بما أتقي .

                وروي عنه في القبلة للصائم ، مثل ذلك ، وهو يدل على تساويه وأمته في الأحكام ، وإذا استووا في الأحكام ، تناوله ما توجه إليهم ، بمقتضى التساوي .

                قوله : " قالوا : أمر السيد بعض عبيده " ، إلى آخره . هذا دليل القائلين بعدم التعميم إلا لدليل ، وهو من وجوه :

                أحدها : أن السيد إذا أمر بعض عبيده ، اختص موجب الأمر به ، دون غيره منهم ، في حكم اللغة ; فكذلك الله سبحانه وتعالى مع عبيده ، لا يتجاوز أمره لبعضهم إلى غيره كذلك .

                الوجه الثاني : أن الله عز وجل إذا أمر بعبادة ، كالصلاة والصيام ، لا يتناول الأمر بمطلقه عبادة أخرى غيرها ; فكذلك إذا أمر عبدا ، لا يتناول الأمر بمطلقه عبدا آخر غيره .

                الوجه الثالث : أن لفظ العموم لا يفيد الخصوص بمطلقه ، ولا يحمل [ ص: 418 ] عليه ; فكذا العكس ، وهو أن لفظ الخصوص لا يفيد العموم بمطلقه ، ولا يحمل عليه .

                - قوله : " وكأن الخلاف لفظي " ، أي : يشبه أن النزاع بينهم لفظي ، إذ هؤلاء ، يعني القائلين بأن الحكم يخص من توجه إليه ، يتمسكون بمقتضى اللغة لذلك ، والأولون وهم القائلون بأنه يعم من توجه إليه ، وغيره يتمسكون بالواقع الشرعي ; لأن أدلتهم كلها وقائع شرعية خاصة ، عدي حكمها إلى غيرها ، كما سبق .

                وحينئذ يصير التقدير : أن اللغة تقتضي أن الخطاب لواحد معين يختص به ، ولا خلاف فيه بينهم ، والواقعة الشرعية الخاصة ، إذا قام دليل عمومها ، عمت ، ولا خلاف أيضا فيه بينهم ; فعاد النزاع كما قلنا لفظيا ، والله تعالى أعلم بالصواب .




                الخدمات العلمية