الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                صفحة جزء
                [ ص: 118 ] الثانية : الجمهور على جواز التعبد به سمعا ، خلافا لبعض القدرية والظاهرية ، لنا : وجوه :

                الأول : لو لم يكن ، لكان تبليغ النبي صلى الله عليه وسلم ، الأحكام إلى البلاد على ألسنة الآحاد عبثا ، واللازم باطل ، وتبليغه كذلك تواتري . فإن قيل : اقترن بها ما أفاد العلم ، قلنا : لم ينقل ، والأصل عدمه ، ومجرد الجواز لا يكفي .

                الثاني : إجماع الصحابة عليه ، وتواتره عنهم تواترا معنويا ، كقبول الصديق خبر المغيرة ومحمد بن مسلمة في الجدة ، وعمر خبر حمل بن مالك في غرة الجنين ، وخبر الضحاك في توريث المرأة من دية زوجها ، وخبر عبد الرحمن بن عوف في المجوس ، وعثمان خبر فريعة بنت مالك في السكنى ، وعلي خبر الصديق في غفران الذنب بصلاة الركعتين ، والاستغفار عقيبه . ورجوع الكل إلى خبر عائشة في الغسل بالتقاء الختانين ، واستدارة أهل قباء إلى الكعبة بخبر الواحد . في قضايا كثيرة .

                ودعوى اقتران ما أفاد العلم بها مردودة بما سبق ، وبقول عمر في خبر الغرة : لو لم نسمع هذا لقضينا بغيره ، وظاهره الرجوع إلى مجرد الخبر .

                قالوا : رد عليه السلام خبر ذي اليدين ، والصديق خبر المغيرة ، وعمر خبر أبي موسى ، وعلي خبر معقل في بروع ، وعائشة خبر ابن عمر في تعذيب الميت ببكاء أهله عليه .

                قلنا : استظهارا لهذه الأحكام لجهات ضعف اختصت بهذه الأخبار ، ثم إنها قبلت بعد التوقف فيها بإخبار اثنين بها ، ولم تخرج بذلك عن كونها آحادا .

                الثالث : وجب قبول قول المفتي فيما يخبر به عن ظنه بالإجماع ؛ فليجب قبول قول الراوي فيما يخبر به عن السماع ، والجامع حصول الظن . قالوا : قياس ظني ؛ فلا يثبت به أصل . قلنا : محل النزاع .

                التالي السابق


                المسألة " الثانية : الجمهور على جواز التعبد به " ، أي : بخبر الواحد ، [ ص: 119 ] " سمعا " ، أي : من جهة السمع ، أي : دل السمع ، وهو دليل الشرع ، على جوازه ، " خلافا لبعض القدرية " ، وهم أكثرهم ، وبعض " الظاهرية " على ما نقل الشيخ أبو محمد .

                وفي المسألة تفصيل ، وهو أن القائلين بجواز التعبد به عقلا ، منهم من نفى كونه حجة شرعا ، كالشيعة ، والقاشاني ، وابن داود ، ومنهم من أثبت ذلك . ثم هؤلاء اتفقوا على دلالة دليل السمع عليه ، واختلفوا في دلالة العقل عليه ؛ فأثبته أحمد والقفال وابن سريج ، ونفاه الباقون .

                وقال أبو عبد الله البصري : هو حجة فيما لا يسقط بالشبهة ، واختار الآمدي أنه حجة مطلقا ، وهو المذكور في " المختصر " ، وعليه النظر .

                " لنا " على جواز التعبد به سمعا " وجوه " :

                الأولى : أن النبي صلى الله عليه وسلم ، ثبت عنه بالتواتر أنه كان يبلغ الأحكام إلى البلاد على ألسنة الآحاد ، فلو لم يجز التعبد بخبر الواحد سمعا ، " لكان تبليغ الأحكام على ألسنة الآحاد عبثا " ؛ لأنه غير مفيد " واللازم " وهو العبث من الشارع " باطل " لأن حكم النبي صلى الله عليه وسلم ، هو حكم الله تعالى ، والله سبحانه وتعالى نزه نفسه عن العبث بقوله تعالى : أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا إلى قوله عز وجل : فتعالى الله الملك الحق [ المؤمنون : 115 - 116 ] ، أي : عن العبث .

                [ ص: 120 ] قوله : " وتبليغه كذلك تواتري " ، أي : تبليغ النبي صلى الله عليه وسلم ، الأحكام بطريق الآحاد ثابت بالتواتر ، وقد صدرنا الدليل بهذا .

                قوله : " فإن قيل " ، إلى آخره ، هذا اعتراض على الدليل المذكور من الخصم .

                وتقريره : لا نسلم أن تلك الأخبار التي كان النبي صلى الله عليه وسلم ، يبلغها الناس كانت آحادا ، بل اقترن بها ما أفاد العلم من القرائن الحالية ، وقد قدمنا أن خبر الواحد إذا أفاد العلم بالقرائن كان واسطة بين التواتر والآحاد ، لا تواترا ولا آحادا ، وحينئذ فلا يبقى في تبليغها دليل على جواز التعبد بخبر الواحد المجرد .

                قوله : " قلنا " ، إلى آخره ، هذا جواب الاعتراض المذكور .

                وتقريره : أن ما ذكرتموه من اقتران قرائن بتلك الأخبار ، أفادت معها العلم " لم ينقل ، والأصل عدمه " ؛ فيستصحب فيه حال العدم .

                غاية ما في الباب أن ذلك محتمل احتمالا مجردا ، لكن مجرد احتمال الشيء وجوازه لا يكفي في ثبوته ، وإلا لكان كل ممكن في علم الله تعالى واقعا موجودا ؛ لأنه جائز الوجود .

                الوجه " الثاني : إجماع الصحابة رضي الله عنهم عليه ، وتواتره عنهم تواترا معنويا " ، أي : أن الصحابة رضي الله عنهم أجمعوا على العمل بخبر الواحد ، وتواتر ذلك عنهم تواترا معنويا ، كسخاء حاتم ، وشجاعة علي رضي الله عنه ، وذلك في وقائع كثيرة جرت لهم ، نذكر منها جملة تنبه على غيرها ، وهي الوقائع التي وقعت في " المختصر " .

                [ ص: 121 ] فمن ذلك : " قبول الصديق خبر المغيرة بن شعبة ، ومحمد بن مسلمة في الجدة " ؛ فروى مالك عن الزهري ، عن عثمان بن إسحاق بن خرشة ، عن قبيصة بن ذؤيب ، قال : جاءت الجدة إلى أبي بكر رضي الله عنه تسأله ميراثها ، قال : فقال : ما لك في كتاب الله شيء ، وما لك في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، شيء ؛ فارجعي حتى أسأل الناس ؛ فسأل الناس ؛ فقال المغيرة بن شعبة : حضرت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أعطاها السدس ؛ فقال أبو بكر رضي الله عنه : هل معك غيرك ؟ فقام محمد بن مسلمة ؛ فقال مثل ما قال المغيرة بن شعبة ؛ فأنفذه لها أبو بكر الحديث . رواه أبو داود ، والنسائي ، وابن ماجه ، والترمذي ، وقال : حديث حسن صحيح .

                ومن ذلك قبول عمر رضي الله عنه خبر حمل بن مالك بن النابغة في غرة الجنين : ذكر الشيخ أبو محمد أن عمر رضي الله عنه قال : أذكر الله امرأ سمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، في الجنين ؛ فقام حمل بن مالك بن النابغة ؛ فقال : كنت بين جاريتين لي ؛ فضربت إحداهما الأخرى بمسطح ؛ فقتلتها وجنينها ؛ فقضى النبي صلى الله عليه وسلم ، في الجنين بغرة ؛ فقال عمر رضي الله عنه : " لو لم نسمع هذا لقضينا بغيره " .

                [ ص: 122 ] قلت : معنى هذه القصة مشهور صحيح ، من رواية أبي هريرة والمغيرة بن شعبة رضي الله عنهما ، غير أن مناشدة عمر رضي الله عنه لم أقف عليها .

                من ذلك : قبول عمر رضي الله عنه أيضا خبر الضحاك في توريث المرأة من دية زوجها ؛ فروى سعيد بن المسيب ، قال : قال عمر رضي الله عنه : الدية على العاقلة ، ولا ترث المرأة من دية زوجها شيئا ؛ فأخبره الضحاك بن سفيان الكلابي رضي الله عنه ، أن النبي صلى الله عليه وسلم ، كتب إليه أن يورث امرأة أشيم الضبابي من دية زوجها . رواه أبو داود ، والنسائي ، وابن ماجه ، والترمذي وصححه .

                ومن ذلك : قبول عمر رضي الله عنه أيضا خبر عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه " في " أخذ الجزية من المجوس ؛ فروى سفيان بن عيينة ، عن عمرو عن بجالة ؛ أن عمر كان لا يأخذ الجزية من المجوس ، حتى أخبر عبد الرحمن بن عوف أن [ ص: 123 ] النبي صلى الله عليه وسلم ، أخذ الجزية من مجوس هجر . رواه البخاري ، وأبو داود ، والنسائي ، والترمذي وصححه . وله من طريق آخر ، عن عمرو بن دينار ، عن بجالة بن عبدة ، قال : كنت كاتبا لجزء بن معاوية على " مناذر " ؛ فجاءنا كتاب عمر : " انظر مجوس من قبلك ؛ فخذ منهم الجزية ، فإن عبد الرحمن بن عوف أخبرني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أخذ الجزية من مجوس هجر " . قال الترمذي : هذا حديث حسن .

                ومن ذلك : قبول عثمان رضي الله عنه خبر فريعة بنت مالك في السكنى ؛ فروت زينب بنت كعب بن عجرة ، أن الفريعة بنت مالك بن سنان ، وهي أخت أبي سعيد الخدري ، أخبرتها أنها جاءت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، تسأله أن ترجع إلى أهلها في بني خدرة فإن زوجها خرج في طلب أعبد له ؛ فقتلوه ، ولم يكن ترك لها مسكنا تملكه ولا نفقة ، قال : فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : امكثي في بيتك حتى يبلغ الكتاب أجله ، قالت : فاعتددت فيه أربعة أشهر وعشرا ، قالت : فلما كان عثمان رضي الله عنه ، أرسل إلي ؛ فسألني عن ذلك ؛ فأخبرته فاتبعه ، وقضى به ، رواه النسائي ، وابن ماجه ، والترمذي .

                ومن ذلك : قبول علي خبر الصديق رضي الله عنهما في غفران الذنب بصلاة الركعتين ، والاستغفار عقيبه ؛ فروى أسماء بن الحكم الفزاري ، قال : سمعت [ ص: 124 ] عليا رضي الله عنه يقول : إني كنت رجلا إذا سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، حديثا نفعني الله منه بما شاء أن ينفعني ، وإذا حدثني رجل من أصحابه ، استحلفته ، فإذا حلف لي صدقته ، وإنه حدثني أبو بكر رضي الله عنه ، وصدق أبو بكر ، قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، يقول : ما من رجل يذنب ذنبا ، ثم يقوم فيتطهر ، ثم يصلي ركعتين ، ثم يستغفر الله ، إلا غفر الله له ، ثم قرأ هذه الآية : والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم [ آل عمران : 135 ] . رواه الأربعة أيضا .

                ومن ذلك : " رجوع لكل - أي : جميع الصحابة رضي الله عنهم إلى خبر عائشة رضي الله عنها في " وجوب " الغسل بالتقاء الختانين " وذلك أن بعض الصحابة كان يفتي بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم ، بأن الماء من الماء ، لا غير ؛ فنازعه بعضهم في ذلك ، واشتهر الخلاف حتى صار الصحابة فيه قسمين : المهاجرين والأنصار ؛ فأرسلوا إلى عائشة أبا موسى يسألها عن ذلك ؛ فروت لهم عن النبي صلى الله عليه وسلم : إذا التقى الختانان - وفي رواية : إذا مس الختان الختان - وجب الغسل ؛ فرجعوا إلى قولها .

                وقد روي عن أبي بن كعب رضي الله عنه ، قال : إنما كان الماء من الماء [ ص: 125 ] رخصة في أول الإسلام ، ثم نهي عنها . رواه الترمذي ، وقال : حديث صحيح .

                ومن ذلك : استدارة أهل قباء إلى الكعبة بخبر الواحد ؛ فروى إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن البراء بن عازب ، قال : لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، المدينة صلى نحو بيت المقدس ستة أو سبعة عشر شهرا ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم ، يحب أن يوجه إلى الكعبة ؛ فأنزل الله تعالى : قد نرى تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلة ترضاها فول وجهك شطر المسجد الحرام [ البقرة : 144 ] ؛ فوجه نحو الكعبة ، وكان [ ص: 126 ] يحب ذلك ؛ فصلى رجل معه العصر ، ثم مر على قوم من الأنصار ، وهم ركوع في صلاة العصر ، نحو بيت المقدس ؛ فقال : هو يشهد أنه صلى مع رسول الله ، صلى الله عليه وسلم ، وأنه قد وجه نحو الكعبة ، قال : فانحرفوا وهم ركوع . ورواه سفيان عن أبي إسحاق ، ورواه أيضا عن عبد الله بن دينار ، عن ابن عمر ، قال : كانوا في الفجر . أخرجاه في " الصحيحين " ، ورواه النسائي والترمذي وصححه .

                قوله : " في قضايا كثيرة " ، أي : هذه الوقائع عمل فيها بخبر الواحد في قضايا ، أي : مع قضايا كثيرة ، عمل فيها به ؛ فدل على أن العمل به مجمع عليه بين الصحابة رضي الله عنهم ؛ فيكون حجة .

                قوله : " ودعوى اقتران ما أفاد العلم بها مردودة بما سبق ، وبقول عمر " ، إلى آخره ، أي : فإن ادعى الخصم أن الأخبار في هذه الوقائع اقترن بها قرائن أفادت معها العلم ، قلنا : دعواك هذه مردودة من وجهين :

                أحدهما : ما سبق في الوجه الذي قبل هذا ، وهو أنه لم ينقل ، والأصل عدمه ، ومجرد الجواز لا يكفي .

                والثاني : أنها مردودة " بقول عمر في خبر الغرة " ، السابق ذكره : " لو لم نسمع هذا لقضينا بغيره ، وظاهره الرجوع إلى مجرد الخبر " ؛ لأنه أخبر أنه امتنع قضاؤه برأيه لوجود [ ص: 127 ] سماعه هذا الخبر ؛ فيكون الخبر بمجرده مستقلا بالمنع ، وليس فيه ذكر قرينة .

                قوله : " قالوا : رد عليه السلام خبر ذي اليدين " ، إلى آخره . هذا اعتراض من الخصم على هذا الوجه ، وهو الاحتجاج بإجماع الصحابة رضي الله عنهم على العمل بخبر الواحد .

                وتقريره : أن ما ذكرتموه من إجماعهم ، إن دل على العمل بخبر الواحد ؛ فقد ورد عنهم ما يدل على إجماعهم على رده ، وعدم العمل به ، وذلك في قضايا :

                منها : ما روى محمد بن سيرين ، عن أبي هريرة ، أن النبي صلى الله عليه وسلم ، انصرف من اثنتين ؛ فقال له ذو اليدين : أقصرت الصلاة ، أم نسيت يا رسول الله ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أصدق ذو اليدين ؟ وفي رواية : أحق ما يقول ذو اليدين ؟ فقال الناس : نعم ؛ فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ فصلى اثنتين أخريين . الحديث متفق عليه ، وهو في بقية السنن الأربعة .

                ومنها : أن الصديق رضي الله عنه رد خبر المغيرة بن شعبة في الجدة بمجرده حتى وافقه محمد بن مسلمة ، وقد سبق .

                ومنها : أن عمر رضي الله عنه رد خبر أبي موسى في الاستئذان ؛ فروى أبو سعيد رضي الله عنه ، قال : استأذن أبو موسى على عمر رضي الله عنه : فقال : السلام عليكم ، أأدخل ؟ فقال عمر رضي الله عنه واحدة ، ثم سكت ساعة ، ثم قال : السلام عليكم ، أأدخل ؟ فقال عمر رضي الله عنه : ثنتان ، ثم سكت ساعة ، ثم قال : السلام عليكم ، أأدخل ؟ فقال عمر : ثلاث ، ثم رجع ؛ فقال عمر رضي الله عنه للبواب : ما صنع ؟ قال : رجع ، قال : علي به ؛ فلما جاءه ، قال : ما هذا الذي [ ص: 128 ] صنعت ؟ قال : السنة ، قال : والله لتأتيني على هذا ببرهان ، أو لأفعلن بك . قال : فأتانا ونحن رفقة من الأنصار ؛ فقال : يا معشر الأنصار ، ألستم أعلم الناس بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ ألم يقل رسول الله صلى الله عليه وسلم : الاستئذان ثلاث ، فإن أذن لك ، وإلا فارجع ؟ قال : فجعل القوم يمازحونه ، قال أبو سعيد : ثم رفعت رأسي ؛ فقلت : فما أصابك في هذا اليوم من العقوبة من شيء ؛ فأنا شريكك ، قال : فأتى عمر ؛ فأخبره بذلك ؛ فقال عمر : ما كنت علمت بهذا . أخرجاه في " الصحيحين " من حديث أبي بن كعب ، وأبي سعيد ، وأبي موسى ، ورواه من حديثه أبو داود وابن ماجه والترمذي ، وقال : حديث حسن .

                ومنها : أن عليا رضي الله عنه رد خبر معقل بن سنان ، في بروع بنت واشق ، كذا ذكر الشيخ أبو محمد ، والمشهور فيه ما روى علقمة ، عن ابن مسعود ، أنه سئل عن رجل تزوج امرأة ، ولم يفرض لها ، ولم يدخل بها حتى مات ؛ فقال ابن مسعود رضي الله عنه : لها مثل صداق نسائها ، لا وكس ولا شطط ، وعليها العدة ، ولها الميراث . فقام معقل بن سنان الأشجعي ؛ فقال : قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، في بروع بنت [ ص: 129 ] واشق ، امرأة منا ، مثل ما قضيت ؛ ففرح بها ابن مسعود . رواه أبو داود ، والنسائي ، وابن ماجه ، والترمذي ، وقال : حديث حسن صحيح ، والله أعلم بالصواب .

                ومنها : أن عائشة ردت خبر ابن عمر في تعذيب الميت ببكاء أهله عليه ؛ فروى يحيى بن عبد الرحمن ، عن ابن عمر ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : الميت يعذب ببكاء أهله عليه ؛ فقالت عائشة رضي الله عنها : يرحمه الله ، لم يكذب ، ولكنه وهم ، إنما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لرجل مات يهوديا : إن الميت ليعذب ، وإن أهله ليبكون عليه ، رواه الترمذي وصححه .

                قالوا : فهذا رد من النبي صلى الله عليه وسلم ، وجماعة من الصحابة ، لخبر الواحد ، وحينئذ رده ثابت بالنص والإجماع .

                قوله : " قلنا استظهارا " ، إلى آخره ، أي : إنما ردوا هذه الأخبار ، في هذه الوقائع ، استظهارا لتلك الأحكام " لجهات ضعف اختصت بهذه الأخبار " ، في نظر أولئك الذين بلغتهم ، وذلك لا يدل على أن خبر الواحد مردود مطلقا ، " ثم إنها - يعني تلك الأخبار - قبلت بعد التوقف فيها بإخبار اثنين بها " ، كما في حديث المغيرة لما وافقه محمد بن مسلمة ، وحديث أبي موسى لما وافقه أبو سعيد ، وحديث ذي اليدين لما وافقه الشيخان ، وغيرهما " ولم تخرج بذلك - أي : بإخبار اثنين بها - عن [ ص: 130 ] كونها آحادا " ؛ فقد صار ما احتج به الخصم حجة عليه .

                وبيان وجوه الموجب للتوقف في الأخبار المذكورة .

                أما خبر ذي اليدين ، فإن الناس كانوا كثيرين خلف النبي ، صلى الله عليه وسلم ، وفيهم من هو أضبط لأفعال الصلاة من ذي اليدين ، وأحرص على كمالها ودفع النقص عنها ؛ فكان تنبيهه لوقوع النقص فيها دونهم بعيدا في العادة ؛ فلذلك توقف فيه النبي صلى الله عليه وسلم ، حتى وافقه الناس .

                وأما خبر المغيرة في الجدة ؛ فللتوقف فيه وجهان :

                أحدهما : أن المغيرة كان في الجاهلية غير متماسك تماسك غيره من العرب ، وشهد عليه بالزنى في زمن عمر رضي الله عنه ، حتى لم يبق إلا رجمه ؛ فلعل الصديق رضي الله عنه تفرس فيه نوع ضعف أو تهمة ؛ فتوقف في خبره لأجله ، حتى وافقه آخر .

                الوجه الثاني : أن الصديق لعله غلب في خبره معنى الشهادة على المال ، من حيث كان الثابت به مالا ، خصوصا وهو يثبت حكما مؤبدا ، لا ذكر له في الكتاب والسنة ، وهو ميراث الجدة ؛ فكان ذلك مناسبا ، بل موجبا للتوقف .

                وأما خبر أبي موسى : فإن عمر رضي الله عنه كان شديد الحراسة للسنة ، والصيانة لها عن دخول ما ليس منها فيها ، وكان مع ذلك شديد الخبرة بأحاديث النبي ، صلى الله عليه وسلم ؛ لأنه كان لا يفارقه ؛ إما بنفسه ، أو بنائبه على ما دل عليه حديث ابن عباس رضي الله عنهما عنه ، ثم إنه سمع ما لم يكن يعلمه ؛ فأحب الاحتياط لذلك ، ولهذا قال : ما كنت علمت بهذا .

                [ ص: 131 ] وأما حديث معقل فتضمن أحكاما ، منها : الصداق ، وهو حق مالي ؛ فلعله غلب فيه الشهادة .

                وأما حديث ابن عمر : فإنما ردته عائشة رضي الله عنها من حيث الوهم ، لا من حيث الكذب والضعف ، ولهذا قالت : يرحمه الله ، لم يكذب ولكنه وهم .

                وكذلك روت عمرة أنها سمعت عائشة ، وذكر لها أن ابن عمر يقول : إن الميت ليعذب ببكاء الحي ؛ فقالت عائشة رضي الله عنها : غفر الله لأبي عبد الرحمن ، أما إنه لم يكذب ، ولكنه نسي أو أخطأ ، إنما مر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، على يهودية يبكى عليها ؛ فقال : إنهم ليبكون عليها ، وإنها لتعذب في قبرها . متفق عليه ، وأخرجه النسائي والترمذي وصححه . فتبين بهذا أن رد هذه الأخبار ، لهذه المعاني التي اختصت بها ، لا يقدح في العمل بخبر الواحد .

                الوجه " الثالث " : من أصل الدليل في المسألة .

                وتقريره : أن قول المفتي يجب قبوله فيما يخبر به عن ظنه أن ما أفتى به حكم الله ، بحسب اجتهاده بالإجماع ، أي : يجب قبوله بالإجماع ؛ فليجب قبول قول الراوي فيما يخبر به عن السماع ممن فوقه ، والجامع بين فتيا المفتي ، وخبر الواحد حصول الظن فيهما .

                أما في الفتيا ؛ فلأنه يغلب على ظن المفتي والمستفتي أن ما أفتى به حكم الله تعالى .

                [ ص: 132 ] وأما في الراوي ؛ فلأنه يغلب على ظن السامع ، أن ما رواه ثابت عن رسول الله ، صلى الله عليه وسلم ؛ فيجب أن يقبل ، بالقياس على الفتيا .

                قوله : " قالوا " ، إلى آخره ، هذا اعتراض على هذا الوجه .

                وتقريره : أن هذا قياس ظني ؛ فلا يثبت به العمل بخبر الواحد ؛ لأنه أصل قوي ؛ فلا يثبت بمثل هذا القياس .

                قوله : " قلنا : محل النزاع " ، هذا جواب اعتراضهم .

                وتقريره : أن كون القياس المذكور ظنيا محل النزاع ؛ فإنا لا نسلم أنه ظني ، بل هو جلي قاطع من حيث هو في معنى أصله ، وذلك أنه لا فرق بين الراوي والمفتي إلا أن هذا يخبر عن غيره ، وهذا يخبر عن ظنه ، أو أن هذا يروي قول غيره ، وهذا يروي مذهب غيره .

                وتحرير الجواب عن الاعتراض المذكور : إما بما ذكرناه من منع كون القياس المذكور ظنيا ، أو بمنع كون محل النزاع - وهو جواز التعبد بخبر الواحد - قطعيا ، بل هو اجتهادي ؛ فيثبت بدلالته الظنية كالقياس المذكور وغيره .




                الخدمات العلمية