الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                صفحة جزء
                [ ص: 380 ] الرابعة : الأمر بالشيء نهي عن أضداده ، والنهي عن أمر بأحد أضداده من حيث المعنى لا الصيغة ، خلافا للمعتزلة .

                لنا : الآمر بالسكون ناه عن الحركة ، وبالعكس ضرورة .

                قالوا : قد يأمر بأحد الضدين أو ينهى عنه من يغفل عن ضده ، والأمر مع الغفلة عن المأمور به لا يتصور . وما ذكرتموه ضروري ، لا اقتضائي طلبي ، حتى لو تصور ترك الحركة بدون السكون ، لم يكن مأمورا به .

                قلنا : فهذا هو المطلوب .

                التالي السابق


                المسألة " الرابعة : الأمر بالشيء نهي عن أضداده ، والنهي عنه أمر بأحد أضداده من حيث المعنى لا الصيغة " ، أي من جهة الالتزام عقلا " خلافا للمعتزلة " ، هذا نقل " المختصر " - وذكر الآمدي أن القاضي أبا بكر قال : إن الأمر بالشيء نهي عن أضداده ، لكن اختلف قوله هل ذلك باللفظ أو بطريق الاستلزام ، وهو آخر قوليه .

                قال : ومن أصحابنا من منع ذلك مطلقا أما المعتزلة فقالوا : ليس الأمر بعينه نهيا عن أضداده ، وهل يكون نهيا عنها من جهة المعنى ؟ منعه قدماؤهم ، وأثبته بعض متأخريهم ، كأبي الحسين البصري وغيره . ومنهم من أثبت ذلك في أمر الإيجاب ، دون الندب .

                واختار الآمدي : أنا لو جوزنا تكليف ما لا يطاق ; لم يكن الأمر نهيا عن أضداده ، وإلا كان نهيا عنها مطلقا ، في أمر الإيجاب والندب ، بطريق الاستلزام .

                قلت : وهو تحقيق جيد . ومعنى قولهم : هو نهي عن أضداده من حيث [ ص: 381 ] المعنى ، لا الصيغة ، أو نهي عنها بطريق الاستلزام لا بعينه ، أو أن ذلك التزامي ، لا لفظي ، كله بمعنى واحد ، وهو أن قوله : قم ، غير قوله : لا تقعد ، وقوله : تحرك ، غير قوله : لا تسكن ، لفظا ومعنى ، ولكن يلزم من قيامه أن لا يقعد ، ومن حركته أن لا يسكن ، لاستحالة اجتماع الضدين .

                ومن يقول : هو نهي عن أحد أضداده بعينه ، أو من حيث الصيغة ، يريد أن قوله : قم ، يستفاد منه استفادة لفظية عدم القعود ، لا استفادة التزامية ، أي أن طلب عدم القيام بعينه هو طلب القعود ، وعند التحقيق يرجع هؤلاء إلى الأول .

                وقال قوم : فعل الضد هو عين ترك ضده الآخر ; فالسكون عين ترك الحركة ، والبعد من المغرب هو القرب من المشرق ، وليس بشيء ; لأن القرب والبعد معنيان إضافيان ، والفعل والترك معنيان حقيقيان ; فلا يصح التنظير والقياس .

                عدنا إلى توجيه كلام " المختصر " .

                قوله : " لنا " : أي : على صحة ما قلناه : أن " الآمر بالسكون ناه عن الحركة . وبالعكس ، أي : والآمر بالحركة ناه عن السكون " ضرورة " أن الحركة والسكون ونحوهما من الأضداد لا يجتمعان ; فالأمر بفعل أحدهما يستلزم النهي عن الآخر ، كما أن فعل أحدهما يستلزم ترك الآخر ، كما تستلزم الحركة ترك السكون ، والسكون ترك الحركة . ولهذا قلنا : إن الأمر بالشيء نهي عن جميع أضداده ، إذا كان له أضداد ، ضرورة توقف فعله على ترك [ ص: 382 ] جميعها ، كما قلنا في القيام مع الركوع ، والسجود ، والقعود ، والاضطجاع . وكذلك الحكم في الأمر بكل واحد منهما ، مع أضداده الباقية ، وإذا كان له ضد واحد ، كالحركة مع السكون ; فالأمر به يستلزم النهي عن عين ذلك الضد . أما النهي عن الشيء ; فإنما يستلزم الأمر بضد واحد من أضداده ، إذا كان له أضداد ، لاستحالة ترك المنهي عنه ، بدون التلبس بما ينافيه ، ليشتغل به عن فعل المنهي عنه ، وذلك التلبس ضروري ، يندفع بفعل ضد واحد ، وليس المقصود إيجاد بقية الأضداد ، كما في الأمر ; فحصل من هذا أن المأمور به ، إن كان له ضد أو أضداد ، تعين النهي عن الجميع ، والمنهي عنه إن كان له ضد واحد ، تعين الأمر به ، وإن كان له أضداد ; فالمأمور به منها واحد لا بعينه ، ضرورة توقف ترك المنهي على فعل الضد ، المعين أو المبهم .

                قوله : " قالوا " ، يعني المانعين في المسألة : " قد يأمر بأحد الضدين " من يغفل عن الآخر ، وينهى عن أحدهما من يغفل عن الآخر ; فلو كان الأمر بأحدهما نهيا عن الآخر ، أو النهي عن أحدهما أمرا بالآخر ، لما صحت الغفلة عن أحدهما ، إذ الأمر به ، أو النهي عنه مع الغفلة عنه لا يتصور ، من جهة أن الأمر والنهي يستدعيان تصور المأمور به ، والمنهي عنه ، ليصح توجه القصد إليهما ، لتعلق الأمر والنهي بهما . قالوا : وما ذكرتموه من توقف فعل [ ص: 383 ] أحد الضدين ، على ترك الآخر ، " هو ضروري ، لا اقتضائي طلبي " ، أي : هو من حيث ضرورة التوقف المذكور ، لا من حيث إنه مستفاد من اقتضاء اللفظ ، وطلب المتكلم له ، يعني أن المتكلم لا يطلب بقوله : تحرك ، ترك السكون ، بل ترك السكون وجب ضرورة أن الحركة لا تحصل بدونه ، حتى لو تصور ترك الحركة مثلا ، بدون السكون ، أو التحرك ، بدون ترك السكون ، لم يكن مأمورا به .

                قوله : " قلنا : فهذا هو المطلوب " ، أي : هذا هو معنى قولنا : الأمر بالشيء نهي عن أضداده ، من حيث المعنى لا الصيغة ، أي : أن ترك أضداده ليس منهيا عنه بمقتضى لفظ الأمر ، بل لضرورة توقف امتثال أمره عليه ، واستحالة فعل الشيء بدون ترك أضداده .



                أقسام المعلومات : فرعان :

                أحدهما : المعلومات كلها أربعة أقسام : نقيضان : وهما اللذان لا يجتمعان ، ولا يرتفعان ، كوجود زيد وعدمه ، وضدان : وهما اللذان لا يجتمعان ، ويمكن ارتفاعهما ، مع الاختلاف في الحقيقة ، كالسواد والبياض ، وخلافان : وهما اللذان يجتمعان ويرتفعان كالحركة والبياض . ومثلان : وهما اللذان لا يجتمعان ، ويمكن ارتفاعهما مع تساوي الحقيقة ، كالبيض والبياض .

                قلت : فالجامع بين النقيضين ، والضدين ، والمثلين : عدم إمكان [ ص: 384 ] الاجتماع ، والفارق بين النقيضين والضدين : جواز الارتفاع فيهما ، دون النقيضين ، والفارق بين الضدين والمثلين : اختلاف الحقيقة في الضدين ، وتساويهما في المثلين ، والفرق بين الخلافين والثلاثة الأخر جواز الاجتماع فيهما دونها .

                ودليل حصر المعلومات في هذه الأربعة : أن المعلومين إما أن يمكن اجتماعهما أو لا ، فإن أمكن ; فهما الخلافان ، وإن لم يمكن اجتماعهما ; فإما أن لا يمكن ارتفاعهما ، وهما النقيضان ، أو يمكن ارتفاعهما ، فإن كان مع اختلاف الحقيقة ; فهما الضدان ، وإلا ; فهما المثلان .

                فإن قيل : قولكم في الضدين : إنهما يمكن ارتفاعهما مشكل بالحركة والسكون ، لا يرتفعان عن الجسم ، والحياة والموت ، والعلم والجهل ، لا يرتفعان عن الحي ، وهي من باب الأضداد .

                قلنا : إمكان الارتفاع أعم منه ، مع بقاء المحل أو عدمه ، ونحن نريد إمكان ارتفاعهما من حيث الجملة ، وهو صحيح ، إذ قبل وجود العالم ، لم يكن جسم متحرك ولا ساكن ، ولا حيوان حي ولا ميت ، ولا عالم ولا جاهل ; فقد صح ارتفاعهما لارتفاع محالها ، بخلاف العدم والوجود فإنهما لم يرتفعا قبل العالم ، بل كان العدم ثابتا .

                الفرع الثاني : زعم بعض الفقهاء أن النزاع في وجوب النكاح وعدمه ، مبني على هذه المسألة ، وهي أن النهي عن الشيء أمر بضده ، قال : لأنا إذا [ ص: 385 ] قلنا بذلك ; فالمكلف منهي عن الزنى ; فيكون مأمورا بضده ، وهو النكاح ، والأمر يقتضي الوجوب ; فيكون النكاح واجبا .

                قلت : وهذا تخريج ضعيف ; لأنا قد بينا أن التحقيق : أن الشيء إذا كان له أضداد ; فالنهي عن أمر بأحد أضداده ، والزنى لم ينحصر ضده في النكاح ، بل ليس ضدا له أصلا ، إنما ضد الزنى تركه ، لكن تركه قد يكون بالنكاح ، وقد يكون بالتسري ، وقد يكون بالاستعفاف مع التعزب ; فلا يتعين النكاح للتلبس به ، بل يلزم قائل ذلك أن يكون المكلف ، المنهي عن الزنى ، مأمورا بالنكاح ، أو التسري على التخيير ; لأن ترك الزنى يحصل بكل منهما ; فيصير من باب الواجب المخير . فإن قال بذلك ، صح له التخريج المذكور ، لكن التسري لم نعلم أحدا قال بوجوبه ، تعيينا ولا تخييرا ، والله تعالى أعلم بالصواب .




                الخدمات العلمية