الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                صفحة جزء
                [ ص: 228 ] العاشرة : الجمهور على قبول مرسل الصحابي ، وخالف قوم ، إلا أن يعلم بنصه أو عادته أنه لا يروي إلا عن صحابي ، لجواز أن يروي عن غير صحابي .

                لنا : إجماعهم على قبول أحاديثهم ، مع علمهم أن بعضهم يروي بواسطة بعض ، كحديثي أبي هريرة وابن عباس ، وقال البراء بن عازب : ما كل ما حدثناكم به سمعناه من رسول الله ، صلى الله عليه وسلم ، غير أنا لا نكذب . والصحابي لا يروي إلا عن صحابي ، أو معلوم العدالة غيره ; فلا محذور .

                أما مرسل غير الصحابي ، كقول من لم يعاصر النبي صلى الله عليه وسلم : قال النبي صلى الله عليه وسلم . ومن لم يعاصر أبا هريرة : قال أبو هريرة ; ففيه قولان : القبول : وهو مذهب مالك ، وأبي حنيفة ، واختاره القاضي وجماعة من المتكلمين . والمنع : وهو قول الشافعي ، وبعض المحدثين .

                والخلاف هنا مبني على الخلاف في رواية المجهول ، إذ الساقط من السند مجهول ، وقد تقدم الكلام فيه .

                التالي السابق


                المسألة " العاشرة : الجمهور على قبول مرسل الصحابي " ، وهو ما رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم ، بواسطة راو آخر لم يسمه ، " وخالف قوم " ; فقالوا : لا يقبل " إلا أن يعلم بنصه أو عادته ، أنه لا يروي إلا عن صحابي " ، أما إن لم يعلم ذلك منه ، لم يقبل ما أرسله ، لجواز أنه رواه عن غير صحابي .

                " لنا " على قبوله مطلقا : " إجماعهم على قبول أحاديثهم " ، أي : إجماع الصحابة رضي الله عنهم ، على قبول بعضهم حديث بعض ، مع علمهم أن بعضهم يروي بواسطة بعض ، كحديثي أبي هريرة ، وابن عباس السابقين في مراتب ألفاظ الصحابي ، وهو حديث : من أصبح جنبا فلا صوم له . حيث رواه أبو هريرة عن الفضل بن عباس ، وحديث ابن عباس : إنما الربا في النسيئة . حيث رواه عن أسامة بن زيد .

                [ ص: 229 ] وقال البراء : ما كل ما حدثناكم به سمعناه من رسول الله ، صلى الله عليه وسلم ، غير أنا لا نكذب . يعني بل بعضنا يروي بواسطة بعض ; لأن الصحابي لا يروي إلا عن صحابي ، وهو معلوم العدالة كما سبق ، أو عن معلوم العدالة غير صحابي ; لأن الصحابة رضي الله عنهم أحوط للدين من أن يرووا أحكامه عمن لا يعول عليه ، وحينئذ لا محذور في مراسيلهم ; لأن الواسطة عدل بكل حال . هذه أدلة " المختصر " في المسألة :

                وهنا دليلان آخران :

                أحدهما : في " الروضة " ، وهو أن الأمة أجمعت على قبول رواية ابن عباس ، ونظرائه من أصاغر الصحابة ، مع إكثارهم ، وإنما أكثر روايتهم عن أكابر الصحابة .

                كان ابن عباس يتردد إلى أبواب أكابر الصحابة ، يأخذ العلم عنهم ، ثم هو تارة يسميهم ، وتارة يرسل الرواية عن النبي ، صلى الله عليه وسلم ; فقد صار مرسل الصحابة مقبولا بالإجماع . ولا جرم ، كان المخالف فيه شاذا .

                الثاني : ما صح عن عمر رضي الله عنه أنه كان وجار له يتناوبان مجلس النبي ، [ ص: 230 ] صلى الله عليه وسلم ، هذا يوما ، وهذا يوما ، ثم يخبر الحاضر منهما الغائب بما يكون في يومه . وهذا يدل على أن بعضهم كان يروي عن بعض ، وبواسطته ، وقد سبق هذا في عموم الدليل الأول .



                " أما مرسل غير الصحابي ، كقول من لم يعاصر النبي صلى الله عليه وسلم : قال النبي ، صلى الله عليه وسلم ، ومن لم يعاصر أبا هريرة : قال أبو هريرة " ; ففيه قولان :

                أحدهما : " القبول ، وهو مذهب مالك وأبي حنيفة ، واختاره القاضي " أبو يعلى ، " وجماعة من المتكلمين " ، وجمهور المعتزلة .

                والثاني : " المنع ، وهو قول الشافعي ، وبعض المحدثين " ، وأهل الظاهر ، وهذا نقل مطلق عن الشافعي ، والنقل المفصل عنه أن الحديث إن كان من مراسيل الصحابة ، أو كان قد أسنده غير من أرسله ، أو أرسله راو آخر من غير طريق الأول - بمعنى اختلفت طرق إرساله - فيتعاضد بعضها ببعض ، أو يكون المرسل قد عرف من حاله أنه لا يروي عن غير عدل ، أو عضده قول صحابي ، أو قول أكثر أهل العلم ; فهو حجة ، وافقه على ذلك أكثر أصحابه ، والقاضي أبو بكر .

                [ ص: 231 ] وقال عيسى بن أبان : تقبل مراسيل الصحابة ، والتابعين ، وتابعيهم ، ومن هو من أئمة النقل ، دون غيرهم .

                قال الآمدي : والمختار قبول مراسيل العدل مطلقا .

                قلت : التفصيل أحوط ، والقبول مطلقا أسهل ، وأكثر للأحكام .

                قوله : " والخلاف هنا " ، أي : في مرسل غير الصحابي " مبني على الخلاف في رواية المجهول " ; لأن المرسل هو الحديث الذي سقط من سنده راو ; فذلك الساقط من السند مجهول ، وجهالته هي التي أوجبت رده عند الخصم . وقد تقدم الكلام في رواية المجهول ، وبينا في صدر المسألة ، أن الأشبه بظاهر الآية قبولها ، بناء على أن شرط القبول عدم العلم بالفسق ، وإن كنا عند تقرير الأدلة التفصيلية رجحنا المنع .

                ومما يقوى به قبول المرسل مطلقا ، هو أن العدل إذا قال : قال رسول الله ، صلى الله عليه وسلم ; فالظاهر منه أنه لم يقل ذلك إلا بعد علمه ، أو ظنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قاله ، وذلك يستلزم عدالة الواسطة . ولو لم يكن الظاهر منه ذلك ، لكان غاشا للمسلمين ، ملبسا في الدين ، وذلك ينافي العدالة . لكنا فرضناه عدلا ، هذا خلف ، بل المرسل ربما كان أقوى من المسند ، استدلالا بقول إبراهيم النخعي : إذا رويت لكم عن عبد الله ، وأسندت ; فقد حدثني واحد عنه ، وإذا أرسلت ; فقد حدثني جماعة [ ص: 232 ] عنه .

                وعورض هذا بما سبق من أن الراوي قد يروي عن من لو سئل عن حاله ، لضعفه ، أو سكت عنه ، فإذا احتمل أن الواسطة في المرسل كذلك ، سقط الاحتجاج به حتى يعلم .

                ورد هذا بأن ما ذكرتموه فيما إذا كان المروي عنه معينا ، ولم يجزم الراوي بأن الرسول صلى الله عليه وسلم ، قال كذا ، بل قال : قال فلان : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : كذا ; فالعهدة هاهنا على المروي عنه ، وعلى من بلغه الحديث البحث عنه .

                أما إذا لم يذكر المروي عنه ، وجزم الراوي بإضافة الحديث إلى النبي ، صلى الله عليه وسلم ; فلا يتأتى ما ذكرتموه ، بل يجب أن يكون عالما أو ظانا ثبوت الحديث كما قررناه .




                الخدمات العلمية