الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                صفحة جزء
                [ ص: 509 ] الثالثة : نحو : نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، عن المزابنة وقضى بالشفعة ، يعم ، خلافا لقوم .

                لنا : إجماع الصحابة وغيرهم من السلف على التمسك في الوقائع بعموم مثله أمرا ونهيا وترخيصا . وهم أهل اللغة .

                قالوا : قضايا أعيان فلا تعم ، ثم يحتمل أنه خاص فوهم الراوي ، والحجة في المحكي ، لا في لفظ الحاكي .

                قلنا : قضايا الأعيان تعم بما ذكرناه ، وبحكمي على الواحد ، والأصل عدم الوهم . والحجة في عموم اللفظ كما سبق . ولا احتمال للإجماع المذكور ، ولأصالة عدمه .

                التالي السابق


                المسألة " الثالثة : نحو : نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، عن المزابنة وقضى بالشفعة يعم خلافا لقوم " ، أي : قول الراوي : نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، عن كذا ، وقضى بكذا ، يقتضي العموم ، أي : يصح التمسك به في العموم في أمثال تلك القضية المحكية ، نحو : نهى عن بيع الغرر ، وقضى بالشفعة ، وحكم بالشاهد واليمين ، خلافا لقوم منهم إمام الحرمين ، والإمام فخر [ ص: 510 ] الدين ، وأكثر الأصوليين ; فيما حكاه الآمدي ، واختار هو صحة الاحتجاج به على العموم .

                قوله : " لنا " ، أي : على صحة التمسك بها في العموم أن الصحابة رضي الله عنهم وغيرهم من السلف أجمعوا على التمسك في الوقائع بعموم مثل هذا اللفظ في الأمر والنهي والترخيص ، نحو : أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، بوضع الجوائح ، ورجع ابن عمر إلى حديث رافع بن خديج رضي الله عنهما : نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، عن المخابرة ، وأخذوا بحديث نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، عن المزابنة والمحاقلة ، وعن بيع الثمر حتى يبدو صلاحه . وبحديث زيد : رخص رسول الله صلى الله عليه وسلم ، في العرايا . وأشباه ذلك كثير ، وإجماعهم [ ص: 511 ] على ذلك دليل على صحة التمسك به في العموم .

                قوله : " قالوا : قضايا أعيان " ، إلى آخره . هذا دليل من منع العموم في هذه الصيغ ، وتقريره : أن هذه قضايا أعيان ، أي : قضايا وأحكام وقعت من النبي صلى الله عليه وسلم ، في محال معينة ; فحكاها الرواة عنه ; فلا عموم في لفظها ، ولا في معناها ; فلا تقتضي العموم ، ثم إن الخطاب ، أو الحكم في تلك الوقائع يحتمل أنه كان خاصا بشخص ; فوهم الراوي ; فظن أنه عام ، كما قد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم ، جعل شهادة خزيمة بن ثابت بشهادتين ، ولم يجز التمسك به في العموم ، وإذا احتمل ما ذكرناه ، لم يصح التمسك به في العموم مع تعارض الاحتمال ، ولأن الحجة ليست في لفظ الحاكي وهو الراوي ، إنما الحجة في المحكي ، وهو قول النبي صلى الله عليه وسلم ، أو فعله ، نحو : أمر وقضى وحكم ، وذلك لا عموم فيه ; لأن الإخبار عن ذلك يصدق بوقوعه مرة واحدة ، أي : يصح فيمن أمر مرة واحدة أن يقال : أمر ، وفيمن حكم مرة واحدة ، أو قضى مرة واحدة أن يقال : حكم ، وقضى ، وحينئذ لا يبقى على العموم دليل .

                قوله : " قلنا " ، إلى آخره . هذا جواب دليلهم . وتقريره أن يقال : [ ص: 512 ] قولكم : قضايا أعيان ; فلا تعم ، " قلنا : قضايا الأعيان تعم بما ذكرناه " ، من إجماع السلف على التمسك بها في العموم ، وبقوله عليه السلام : حكمي على الواحد حكمي على الجماعة .

                وقولكم : يحتمل أن الخطاب خاص ; فوهم الراوي ; فظنه عاما .

                قلنا : الأصل عدم الوهم ، والظاهر من الصحابي العدل العارف بدلالات الألفاظ أنه لا ينقل ما يشعر بالعموم إلا وهو عالم بوجوده ، وإلا كان مدلسا ملبسا في الدين ، وهو بعيد عنه جدا وبهذا يسقط قولهم : الحجة في المحكي لا في لفظ الحاكي ، بل الحجة في عموم لفظ الحاكي كما سبق في المسألة قبلها من أن العبرة بعموم اللفظ .

                قلت : لكن للخصم أن يقول : عموم اللفظ معتبر إذا كان لفظ الشارع ، وهاهنا ليس كذلك ، بل هو لفظ الحاكي عن الشارع ، وهو فرق صحيح ; فالأولى ما ذكرناه آنفا من أن عموم لفظ الحاكي معتبر ; لأن الظاهر أنه فهم العموم ، وإلا كان ملبسا .

                قوله : " ولا احتمال " أي : ليس هاهنا احتمال لا في فهم الراوي العموم من الخطاب الخاص ولا في لفظه لوجهين :

                أحدهما : الإجماع المذكور من السلف على التمسك به في العموم ، وذلك ينفي الاحتمال ، أو ينفي كونه معتبرا ، وإلا وقع الخطأ في الإجماع .

                الوجه الثاني : أن الأصل عدم الاحتمال . وهذا معنى قوله : " ولا احتمال [ ص: 513 ] للإجماع المذكور ، ولأصالة عدمه " ، أي : عدم الاحتمال .

                قلت : قد وقع في أثناء البحث في المسألة ما يشعر بأن النزاع فيها لفظي من جهة أن المانع للعموم ينفي عموم لفظ الصيغ المذكورة ، نحو : أمر وقضى وحكم ، وهو صحيح كما تقرر ، والمثبت للعموم يثبته فيها من دليل خارج ، وهو إجماع السلف على التمسك بها ، وقوله عليه السلام : حكمي على الواحد حكمي على الجماعة . فظهر أن دليل الخصمين ليس متواردا على محل واحد . والأقرب أن يقال : إن التعميم في المسألة حاصل بطريق القياس الشرعي ، كما قال أبو زيد الدبوسي في . . .

                وبيان ذلك أنا إذا رأينا النبي صلى الله عليه وسلم ، قد حكم بحكم ، أو قضى بقضاء في واقعة معينة ، ثم حدثت لنا واقعة مثلها سواء ، قلنا : الحكم فيها كذا ; لأن النبي صلى الله عليه وسلم ، حكم به في واقعة كذا ، وهذه الواقعة مثلها ; فليكن الحكم فيها كذلك ; لأن حكم المثلين واحد . أما أن يكون قضاؤه عليه السلام بحكم في واقعة معينة منزلا منزلة قوله : هذا الحكم هو حكم الله في هذه الواقعة ونظائرها ، أو كلما وقعت هذه الواقعة ; فاحكموا فيها بهذا الحكم ; فهذا بعيد جدا والله تعالى أعلم بالصواب .




                الخدمات العلمية