الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                صفحة جزء
                [ ص: 374 ] الثالثة : الأمر المطلق لا يقتضي التكرار عند الأكثرين ، منهم أبو الخطاب خلافا للقاضي ، وبعض الشافعية ، وحكي عن أبي حنيفة : إن تكرر لفظ الأمر نحو : صل غدا ، صل غدا اقتضاه تحصيلا لفائدة الأمر الثاني ، وإلا فلا .

                وقيل : إن علق الأمر على شرط ، اقتضى التكرار كالمعلق على العلة ، وهذا القول ليس من المسألة ، إذ هي مفروضة في الأمر المطلق ، والمقترن بالشرط ليس مطلقا ، وما ذكره أبو حنيفة يقتضي التأكيد لغة ، لا التكرار .

                لنا : لا دلالة لصيغة الأمر إلا على مجرد إدخال ماهية الفعل في الوجود ، لا على كمية الفعل ، ولأنه لو قال : صل مرة ، أو مرارا ، لم يكن الأول نقضا ، ولا الثاني تكرارا .

                قالوا : النهي يقتضي تكرار الترك ، والأمر يقتضيه ; فيقتضي تكرار الفعل ، ولأن الأمر بالشيء نهي عن ضده ; فيقتضي تكرار ترك الضد .

                وأجيب عن الأول : بأن الأمر يقتضي فعل الماهية ، وهو حاصل بفعل فرد من أفرادها في زمن ما ، والنهي يقتضي تركها ، ولا يحصل إلا بترك جميع أفرادها في كل زمن ; فافترقا .

                وعن الثاني : بمنع أن الأمر بالشيء نهي عن ضده ، وإن سلم فلا يلزم من ترك الضد المنهي عنه فعل الضد المأمور به ، لجواز أن يكون للمنهي عنه أضداد فيتلبس بغير المأمور به منها ; وهذا على القول بأن الأمر بالشيء نهي عن جميع أضداده لا يتمشى .

                التالي السابق


                المسألة " الثالثة : الأمر المطلق لا يقتضي التكرار ، عند الأكثرين " ، من الفقهاء والمتكلمين " منهم أبو الخطاب ، خلافا للقاضي " أبي يعلى ، " وبعض [ ص: 375 ] الشافعية " ، وأبي إسحاق الإسفراييني ، قالوا : هو يقتضي التكرار ، وهو قول مالك . قاله ابن القصار من استقراء كلامه ، وخالفه أصحابه ، ومن الأصوليين من نفى احتمال التكرار ، قال : لا يحتمله الأمر المطلق ، ومنهم من توقف فيه ، واختار الآمدي أنه للمرة الواحدة ; لأنها مقطوع بإرادتها ، مع احتمال التكرار .

                " وحكي عن أبي حنيفة : إن تكرر لفظ الأمر ، نحو : صل غدا ، صل غدا " .

                اقتضى التكرار " تحصيلا لفائدة الأمر الثاني " ، إذ لولا ذلك ، لكان ذكر الأمر مكررا كذكره غير مكرر ; فيرجع الأمر إلى أنه كرر تأكيدا ، وهو خلاف الظاهر ، إذ فائدة التأسيس أولى من التأكيد " وإلا فلا " ، أي : وإن لم يتكرر لفظ الأمر ، نحو : صل غدا ، لم يقتض التكرار .

                " وقيل : إن علق الأمر على شرط " ، نحو : إن طلعت الشمس ، أو زالت ، أو غربت فصل ; " اقتضى التكرار " بتكرر الشرط ، " كالمعلق على العلة " يقتضي التكرار بتكررها ، وإلا فلا .

                قوله : " وهذا القول ليس من المسألة " ، أي : ليس من الأقوال التي يصلح دخولها تحت فرض المسألة ; لأن المسألة مفروضة في أن الأمر المطلق ، هل يقتضي التكرار أم لا ؟ " والمقترن بالشرط ليس مطلقا " فالتكرار فيه لقرينة الشرط ، لا لكونه أمرا . وكذلك لو اقترن بالأمر قرينة تكرار غير الشرط ، أو قرينة مرة واحدة ; وجب العمل بمقتضى القرينة .

                [ ص: 376 ] وما ذكره أبو حنيفة من الفرق بين ما إذا تكرر لفظ الأمر ; فيقتضي التكرار ، أو لا ; فلا ; فغير مؤثر ; لأن تكرار لفظ الأمر ، إنما يفيد التأكيد لغة لا التكرار .

                قلت : وقد سبق أن فائدة التأسيس أولى من التأكيد ; فيترجح قول أبي حنيفة .

                قوله : " لنا " : إلى آخره . هذه حجة عدم التكرار وهي من وجهين :

                أحدهما : أن صيغة الأمر لا دلالة لها " إلا على مجرد إدخال ماهية الفعل في الوجود " ولا دلالة لها على كميته ، أي : على مقداره من حيث العدد . فإذا قال له : صل ; فإنما اقتضى ذلك إيقاع حقيقة الصلاة ، لا على عدد معين ، ولا مطلق ، حتى يجب لأجله التكرار . وحقيقة الصلاة تحصل بالمرة الواحدة فيخرج بها عن العهدة ; فلا يجب ما زاد عليها ، وذلك المراد بأنه لا يقتضي التكرار .

                الوجه الثاني : أن الأمر لو اقتضى التكرار ، لكان قول القائل : صل مرة ، تناقضا ; لأن صل بوضعه يقتضي التكرار ، وبقوله : مرة ، قد نقض مقتضاه في التكرار . وكذا لو قال له : صل مرارا ، لكان تكرارا ; لأن صل بوضعه يقتضي التكرار ; فقوله : " مرارا " ; لم يفد فائدة زائدة ; فكان تكرارا ، لكن قوله : صل مرة أو مرارا ; ليس نقضا ولا تكرارا ; فلا يكون الأمر للتكرار .

                قوله : " قالوا " ، إلى آخره . هذا حجة من قال بالتكرار ، وهي من وجهين :

                أحدهما : أن النهي نقيض الأمر ، ثم إن " النهي يقتضي تكرار الترك " [ ص: 377 ] باتفاق ; فالأمر الذي هو نقيضه يجب أن يقتضي تكرار الأمر .

                الثاني : أن " الأمر بالشيء نهي عن ضده " ، كما سيأتي إن شاء الله ; فوجب أن يقتضي الأمر تكرار ترك ذلك الضد ، وذلك بتكرار فعل المأمور . مثاله : إذا قال له : صم ; فقد نهاه عن الفطر الذي هو ضد الصوم ، والنهي عن الفطر يقتضي تكرار تركه ، وذلك إنما يكون بتكرار الصوم المأمور به .

                قوله : " وأجيب عن الأول " ، أي : عن الوجه الأول من دليلهم - وهو قياس الأمر على النهي ، في اقتضائه التكرار - بالفرق بين الأمر والنهي ، وبيانه أن الأمر يقتضي فعل ماهية المأمور به ، وذلك يحصل " بفعل فرد من أفرادها ، في زمن ما من الأزمان " ، أي زمن كان ، كما إذا أمره بالصلاة ، حصل مصليا بفعل صلاة واحدة . والنهي عن الفعل يقتضي ترك ماهيته مطلقا ، وذلك " لا يحصل إلا بتركها في كل زمان " ، كما إذا نهاه عن الزنى ; فالمقصود ترك ماهيته ، بالاستمرار على عدمها ما عاش ، حتى لو عمر ألف سنة أو أكثر وزنى في آخر ساعة من عمره لعد مخالفا عاصيا . وإذا كان مقتضى النهي إعدام الماهية مطلقا ; ومقتضى الأمر إيجادها مطلقا ، وهو يحصل بفعلها مرة ، لم يلزم من اقتضاء النهي التكرار ، اقتضاء الأمر له ; فافترقا .

                وأجيب عن الوجه الثاني : وهو أن الأمر بالشيء نهي عن ضده فيقتضي تكرار ترك الضد بأنا نمنع أن الأمر بالشيء نهي عن ضده ; فلا يلزم منه وجوب تكرار ترك الضد ، وإن سلم أن الأمر بالشيء نهي عن ضده لكوننا قد قلنا به فيما بعد ، لكن " لا يلزم من ترك الضد المنهي عنه " ; فعل الضد المأمور به ; لجواز أن يكون للمنهي عنه أضداد فيتلبس بغير ما أمر به منها " ، مثاله : أن القيام [ ص: 378 ] والركوع والسجود والقعود والاضطجاع ; أضداد لاستحالة اجتماعها ، فإذا أمر بالقيام ; فالقعود ضد له ، وقد نهي عنه ضرورة ، صح إتيانه بالقيام . فإذا ترك القعود لا يلزم منه أن يتلبس بالقيام المأمور به لجواز أن يسجد أو يركع أو يضطجع ، وحينئذ يصح قولنا : " فلا يلزم من ترك الضد المنهي عنه " ، وهو القعود هاهنا ، " فعل الضد المأمور به " وهو القيام ، وحينئذ لا ينفعهم قولهم : " الأمر بالشيء نهي عن ضده ; فيقتضي تكرار ترك الضد " ; لأن ذلك إنما ينفعهم لو كان تكرار ترك الضد ، وهو القعود مثلا ، يستلزم فعل المأمور به ، وهو القيام ، ليكون فعله متكررا . لكن ذلك لا يلزم لجواز التلبس بالواسطة كما ذكرنا .

                قوله : " وهذا على القول بأن الأمر بالشيء نهي عن جميع أضداده لا يتمشى " ، هذا تضعيف لهذا الجواب الثاني على تقرير تسليم أن الأمر بالشيء نهي عن ضده ، وهو هذا الذي قد أطلنا فيه آنفا . وبيان ضعفه أن قولنا : " لا يلزم من ترك الضد المنهي عنه فعل الضد المأمور به " ; لجواز أن يكون بينهما واسطة ، إنما يصح لو كان الأمر بالشيء نهيا عن ضد واحد من أضداده بحيث إذا كان له أضداد يكون المنهي عنه واحدا منها ، وتبقى بقية أضداده يجوز التلبس بها فتكون واسطة بين الضدين ; المأمور به والمنهي عنه كما قررنا . لكن هذا ليس بصحيح ، بل الصحيح : الأمر بالشيء نهي عن جميع أضداده كالأمر بالقيام نهي عن الركوع والسجود والقعود والاضطجاع جميعا .

                وحينئذ يلزم من ترك هذه الأضداد المنهي عنها ، التلبس بالضد المأمور به ; فيلزم من ذلك تكرار فعله بواسطة وجوب تكرار ترك أضداده ، وحينئذ يسلم لهم دليلهم ، وهو قولهم : " الأمر بالشيء نهي عن ضده فيقتضي تكرار ترك الضد " ، ويلزم من ذلك تكرار المأمور به .

                قلت : فيشبه أن يجعل من ذوات الجهتين كما سبق الكلام فيه مع الكعبي [ ص: 379 ] في أن المباح مأمور به ، وذلك أن يقال : الأمر لذاته بوضعه لا يقتضي تكرارا ، وباستلزام تكرار ترك أضداده تكراره يقتضي التكرار ; فهو يقتضي التكرار وعدمه ، باعتبار الجهتين . فإن صح لنا هذا رجع النزاع في المسألة لفظيا ، إذ يرجع حاصله إلى أن قوما قالوا : الأمر بوضعه لا يقتضي التكرار . وآخرين قالوا : الأمر يقتضي التكرار بالالتزام كما تقرر .




                الخدمات العلمية