الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                صفحة جزء
                [ ص: 191 ] ثم : أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، بكذا ، أو نهى عن كذا ؛ فحكمه حكم الذي قبله ، لكنه دونه ، لاحتمال الواسطة ، واعتقاد ما ليس بأمر أو نهي أمرا أو نهيا . لكن الظاهر أنه لم يصرح بنقل الأمر إلا بعد جزمه لوجود حقيقته ، ومعرفة الأمر مستفادة من اللغة ، وهم أهلها ؛ فلا يخفى عليهم ، ثم إنهم لم يكن بينهم في صيغة الأمر ونحوها خلاف ، وخلافنا فيه لا يستلزمه .

                ثم أن يقول : أمرنا ، أو نهينا ؛ فيحتمل مع ما سبق من الاحتمالات أن الآمر غير الرسول عليه السلام ؛ فرده قوم لذلك ، والأظهر قبوله ، إذ مراد الصحابي الاحتجاج به ؛ فيحمل على صدوره ممن يحتج بقوله ، وهو الرسول ، صلى الله عليه وسلم ، لكنه يحتمل أنه أراد أمر الله تعالى ، بناء على تأويل أخطأ فيه في نفس الأمر ؛ فيخرج قبوله إذن على أن مذهب الصحابي حجة أم لا .

                ولا يتوجه هذا الاحتمال في قوله : من السنة كذا ، أو جرت ، أو مضت السنة بكذا ؛ فحكمه حكم أمرنا ونهينا .

                التالي السابق


                قوله : " ثم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، بكذا ، أو نهى عن كذا " .

                هذه الرتبة الثالثة ، " فحكمه حكم الذي قبله " ، وهو قوله : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ، في حمله على السماع ، لكنه دون قوله : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ، من وجهين :

                أحدهما : احتمال الواسطة في قوله : أمر رسول الله ، صلى الله عليه وسلم ، أو نهى ، بخلاف قوله : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم .

                واعلم أنا قد بينا أن قوله : قال رسول الله ، صلى الله عليه وسلم ، يحتمل الواسطة أيضا ؛ فلا يصح الفرق بينه وبين قوله : أمر رسول الله ، صلى الله عليه وسلم ، لعدم احتمال الواسطة في قال رسول الله ، صلى الله عليه وسلم ، واحتمالها في أمر رسول الله ، صلى الله عليه وسلم ، نعم احتمال الواسطة في أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أقوى منه في قوله : قال رسول الله ، صلى الله عليه وسلم ؛ لأن سماعه من يروي أمر الرسول ونهيه ؛ فيحكيه عنه ، ويضيفه إلى الرسول بواسطة من سمع منه ، أقرب وأكثر من قوله : قال ، مع إرادة الواسطة .

                [ ص: 192 ] الوجه الثاني : في الفرق بين قال رسول الله ، صلى الله عليه وسلم ، وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم : أن لفظ قال لفظ خبري لا احتمال فيه ، ولا اشتباه ، بخلاف قوله : أمر رسول الله ، صلى الله عليه وسلم ، فإن الأمر والنهي مشتبه في صيغه ومعانيه ؛ فيحتمل أن هذا الراوي اعتقد ما ليس أمرا أمرا ، وما ليس نهيا نهيا ، لاختلاف الناس في الأمر والنهي ، حتى قال بعض أهل الظاهر : لا حجة فيه ما لم ينقل اللفظ ، لكن مع هذا الاحتمال ؛ فالظاهر أنه لم يصرح بنقل الأمر بقوله : أمر رسول الله ، صلى الله عليه وسلم ، إلا بعد جزمه بوجود حقيقة الأمر ؛ فيكون هذا الظاهر راجحا على ذلك الاحتمال .

                وإنما قلنا : إن الظاهر أنه ما نقل الأمر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، إلا بعد معرفة حقيقته ؛ لأن معرفة الأمر مستفادة من اللغة ، وهم - يعني الصحابة - أهل اللغة ؛ فلا يخفى عليهم لفظ الأمر من غيره .

                ثم إن الصحابة لم يكن بينهم في صيغة الأمر والنهي ونحوها خلاف ، حتى يقال : إن الراوي يحتمل أن يشتبه عليه المراد من الأمر ، بل كان عندهم معلوما بالضرورة من لغتهم ، من غير اشتباه ولا احتمال ، وإنما وقع الخلاف في الأمر فيما بين الأصوليين بعد عصر الصحابة رضي الله عنهم بكثير ، وذلك لا يستلزم اختلاف الصحابة فيه ، واشتباهه عليهم .

                قوله : " ثم أن يقول : أمرنا أو نهينا " . هذه الرتبة الرابعة ؛ فيحتمل مع ما سبق من الاحتمالات أن الآمر غير الرسول ، أما الاحتمالات السابقة ؛ فهي احتمال الواسطة ، واحتمال اعتقاد ما ليس بأمر أمرا ، واحتمال اعتقاد ما ليس بنهي نهيا ؛ فهذه [ ص: 193 ] ثلاثة احتمالات ، وهي في الحقيقة احتمالان ، وهما قائمان في قوله : أمرنا أو نهينا ، ويزيد على ما سبقه من المراتب باحتمال أن الآمر غير الرسول ؛ لأن الفاعل في قوله : أمرنا غير مسمى ، " فرده قوم " وهو الكرخي وجماعة ، أي : منعوا إضافة ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، " لذلك " أي : لعدم تسمية الفاعل ؛ لأنه يحتمل غيره قطعا ؛ فلا يضاف إلى الرسول بالاحتمال " والأظهر قبوله " ، وإضافته إلى النبي ، صلى الله عليه وسلم ، وهو قول الشافعي والأكثرين ؛ لأن مراد الصحابي إنما هو الاحتجاج به ، أي : بقوله : أمرنا ؛ فيجب حمله ، أي : حمل الأمر ، على صدوره ممن يحتج بقوله ، وهو الرسول عليه السلام ، إذ غيره لا حجة في أمره ، ولأن العرف ، أن المرءوس إذا قال : أمرنا أو نهينا ، أنه يريد رئيسه بذلك .

                قوله : " لكنه " ، أي : لكن قوله : أمرنا ، " يحتمل أنه أراد أمر الله " ، أي : أن الله أمرنا بكذا ، " بناء على تأويل " آية أو حديث " أخطأ الصحابي فيه " ، أي : في التأويل " في نفس الأمر " .

                ومثال هذا قول ابن عباس رضي الله عنهما ، حين صام بالمدينة رمضان ، برؤية الهلال ليلة السبت ، وصام معاوية بالشام ، برؤية الهلال ليلة الجمعة ؛ فقيل لابن عباس : أما ترضى برؤية معاوية ؟ فقال : لا إنما رأيناه ليلة السبت ؛ فلا نزال نصوم حتى نكمل ثلاثين ، هكذا أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم . وإنما كان ذلك ؛ بناء [ ص: 194 ] منه على تأويل قوله عليه السلام : صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته ، على ما ذكر .

                وإنما مراد الحديث ما إذا لم يثبت في بعض البلاد ، لا مطلقا . أما إذا رئي في بعضها ؛ فهو كما لو رئي في جميعها عند الأكثرين ؛ فكان قول ابن عباس : هكذا أمرنا رسول الله ، صلى الله عليه وسلم ، بناء منه على إجرائه الحديث على إطلاقه ، في الصوم والإفطار للرؤية ، وفيه ما قد نبهنا عليه .

                وكذلك ، لو قال قائل : أمرنا أن نرد المطلقة ثلاثا إلى زوجها الأول ، بمجرد عقد الزوج الثاني عليها ، بناءا على تأويله قوله تعالى : فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره [ البقرة : 230 ] ، على أن النكاح فيه العقد ، " فيخرج قبول قوله " : أمرنا " على أن مذهب الصحابي حجة أم لا " ؛ لأن التأويل المذكور هو مذهبه . وفي الاحتجاج بمذهبه خلاف ، يذكر فيما بعد إن شاء الله تعالى .

                قوله : " ولا يتوجه هذا الاحتمال في قوله : من السنة كذا ، أو جرت السنة ، أو مضت السنة بكذا " .

                أي : الخطأ في تأويل الأمر ، لا يتجه في قوله : من السنة كذا ؛ لأن قوله من السنة كذا ، ونحوه ، نقل مجرد ، لا اجتهاد فيه ، والخطأ في قوله : أمرنا ، على [ ص: 195 ] الاحتمال المذكور ، إنما جاء من الاجتهاد في لفظ النص ، حيث ظن أن الله سبحانه وتعالى أمر بما ليس آمرا به في نفس الأمر .

                قوله : " فحكمه حكم أمرنا ونهينا " ، أي : قوله : من السنة كذا ، أو جرت السنة ، أو مضت السنة بكذا ، كقوله : مضت السنة أن يفرق بين المتلاعنين ؛ فلا يجتمعان أبدا ، ونحوه ، حكمه : حكم أمرنا ونهينا ، في أن الأظهر إضافته إلى سنة النبي ، صلى الله عليه وسلم ، لا غيره ، مع احتماله ما سبق من الاحتمالات ، وهو وقوع الواسطة بين هذا الراوي ، وبين سنة الرسول ، بأن يكون إما عرف أن ما ذكره من السنة بواسطة ، واحتمال اعتقاد ما ليس بأمر أو نهي أمرا أو نهيا .

                فأما احتمال أن الآمر غير الرسول ؛ فلا يتجه في قوله : من السنة ، إذ ليس فيها لفظ أمر يستدعي آمرا ، ويحتمل أن يقوم مقام هذا الاحتمال في قوله : أمرنا ، احتمال تردد قوله : من السنة ، بين سنة النبي ، صلى الله عليه وسلم ، وسنة الخلفاء الراشدين ، وإنما قلنا : إن الأظهر إضافته إلى سنة النبي عليه السلام ، لتبادرها إلى الفهم عند الإطلاق ، ولأنه ذكر في معرض الاحتجاج ، وإنما الحجة في سنة الرسول ، وسنة الخلفاء الراشدين - وإن كانت حجة أيضا ، واللفظ يتناولها - لكنها مختلف فيها ، وسنة الرسول متفق عليها ؛ فحمل أمر الصحابي في قوله : من السنة ، على الاحتجاج بما لا خلاف فيه أولى .

                [ ص: 196 ] وقول التابعي والصحابي ، في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم ، وبعد موته ، سواء ، إلا أن الحجة في قول الصحابي أظهر .




                الخدمات العلمية