الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                صفحة جزء
                [ ص: 233 ] الحادية عشرة : الجمهور يقبل خبر الواحد :

                فيما تعم به البلوى ، كرفع اليدين في الصلاة ، ونقض الوضوء بمس الذكر ، ونحوها - خلافا لأكثر الحنفية ; لأن ما تعم به البلوى ، تتوفر الداوعي على نقله ; فيشتهر عادة ; فوروده غير مشتهر ، دليل بطلانه . ولنا : قبول السلف من الصحابة وغيرهم خبر الواحد مطلقا . وما ذكروه يبطل بالوتر ، والقهقهة ، وتثنية الإقامة ، وخروج النجاسة من غير السبيلين ، إذ أثبتوه بالآحاد ، ودعواهم تواتره واشتهاره غير مسموعة ، إذ العبرة بقول أئمة الحديث . ثم ما تعم به البلوى يثبت بالقياس ; فبالخبر الذي هو أصله أولى .

                وفيما يسقط بالشبهات ، كالحدود - خلافا للكرخي ; لأنه مظنون ; فينهض شبهة تدرأ الحد ، وهو باطل بالقياس والشهادة ، إذ هما مظنونان ، ويقبلان في الحد .

                وفيما يخالف القياس ، خلافا لمالك .

                وفيما يخالف الأصول أو معناها ، خلافا لأبي حنيفة .

                لنا : تصويب النبي صلى الله عليه وسلم ، معاذا في تقديمه السنة على الاجتهاد ، واتفاق الصحابة على ذلك ، ولأن الخبر قول المعصوم ، بخلاف القياس .

                قالوا : القائس على يقين من اجتهاده ، وليس على يقين من صحة الخبر .

                قلنا : ولا على يقين من إصابته . ثم احتمال الخطأ في حقيقة الاجتهاد ، لا في حقيقة الخبر ، بل في طريقه ; فكان أولى بالتقديم . وأيضا مقدمات القياس أكثر ; فالخطأ فيها أغلب .

                ثم الوضوء بالنبيذ سفرا لا حضرا ، وبطلان الوضوء بالقهقهة داخل الصلاة دون خارجها ، مخالف للأصول ، وهو آحاد عند أئمة النقل ، وقد قالوا به .

                التالي السابق


                المسألة " الحادية عشرة : الجمهور : يقبل خبر الواحد فيما تعم به البلوى " ، أي : فيما يكثر التكليف به " كرفع اليدين في الصلاة ، ونقض الوضوء بمس الذكر ، [ ص: 234 ] ونحوها " من أخبار الآحاد التي يكثر التكليف بمقتضاها " خلافا لأكثر الحنفية " ، قالوا : " لأن ما تعم به البلوى ; تتوفر الدواعي على نقله عادة ; فيشتهر عادة " فإذا ورد غير مشتهر ، بل على ألسنة الآحاد ، دل على بطلانه ، وإنما قلنا : إن الدواعي تتوفر على نقله ; لأنه يجب على النبي صلى الله عليه وسلم ، إشاعته ، وإلا كان إخفاء للشرع ، وكتمانا للعلم ، وإذا شاع ، توفرت الدواعي على نقله ; فوجب اشتهاره عادة .

                " ولنا " ، أي : على قبول خبر الواحد فيما تعم به البلوى ، أن السلف من الصحابة وغيرهم ، قبلوا خبر الواحد مطلقا ; فيما تعم به البلوى وغيره ، كقبولهم خبر عائشة رضي الله عنها في الغسل من الجماع بدون الإنزال ، وخبر رافع بن خديج في المخابرة ، وهما مما تعم به البلوى .

                قوله : " وما ذكروه " ، إلى آخره . هذا نقض لدليل الخصم .

                وتقريره : أن ما ذكرتموه من وجوب اشتهار ما تعم به البلوى عادة يبطل بالوتر ; فإنكم أوجبتم الوتر ، والوضوء بالقهقهة داخل الصلاة ، واختاروا تثنية [ ص: 235 ] الإقامة في الصلاة ، وأوجبوا الوضوء بخروج النجاسة من غير السبيلين ، وكل ذلك مما تعم به البلوى ، بأخبار الآحاد ، وكذلك الغسل من غسل الميت تعم به البلوى ، وإنما ثبت بخبر الواحد .

                وقوله : " ودعواهم تواتره واشتهاره غير مسموعة ، إذ العبرة بقول أئمة الحديث " .

                هذا جواب عن دعوى يدعيها الحنفية في الأخبار التي أثبتوا بها الأحكام ، وهي أنهم يزعمون أن الأخبار المذكورة تواترت عندهم ، واشتهرت ; فما أثبتنا ما تعم به البلوى إلا بخبر مشهور .

                والجواب : أن هذه دعوى غير مسموعة ; لأن العبرة في اشتهار الخبر وعدمه ، وصحته وعدمها ، بقول أئمة الحديث ، لا بقولكم ، والأحاديث المذكورة عند أئمة الحديث آحاد ، ثم ما تعم به البلوى يثبت بالقياس ، والقياس فرع للخبر ، ومستنبط منه ; فلأن يثبت بالخبر الذي هو أصل القياس أولى ، ولهم أن يقولوا : نحن إنما نثبته بالقياس الجلي ، المستنبط من خبر مشهور ; فيكون القياس في معنى أصله ، فإن راعوا هذه القاعدة ، لم يرد عليهم ما ذكرناه من ثبوت ما تعم به البلوى بالقياس ; لأنهم لا يثبتونه بمطلق القياس ، بل بقياس خاص .

                فأما قولهم : يجب على النبي صلى الله عليه وسلم ، إشاعة ما تعم به البلوى ; فتتوفر الدواعي على نقله ; فيشتهر عادة .

                فجوابه : أنا لا نسلم ذلك ، وإنما كان يجب عليه الإشاعة ، لو لم يكن الظن كافيا في التعبد مطلقا ، لكنه كاف في التعبد ; فلا تجب الإشاعة ولو سلمنا وجوب [ ص: 236 ] إشاعته على النبي ، صلى الله عليه وسلم ، لكنا لا نسلم أن ذلك يقتضي توفر الدواعي على نقله واشتهاره ، لجواز أن يعلم الناس أن مناط تعبدهم الظن ; فيكتفوا من النقل بما يحصله ، وهو الآحاد .



                قوله : " وفيما يسقط بالشبهات " ، أي : ويقبل خبر الواحد فيما يسقط بالشبهات ، كالحدود ، " خلافا للكرخي " ، وأبي عبد الله البصري ، قالا : " لأنه " ، أي : خبر الواحد ، " مظنون " ، أي : إنما يفيد الظن ، " فينهض شبهة تدرأ الحد " ، لقوله عليه السلام : ادرءوا الحدود بالشبهات . وهو ، أي : ما ذكروه ، " باطل بالقياس والشهادة " ; فإنهما إنما يفيدان الظن ، ومع ذلك يقبلان في الحد ، وليس كل شبهة [ ص: 237 ] يدرأ بها الحد ، والحديث مخصوص بصور كثيرة ، لم يؤثر فيها مطلق الشبهة ، ثم ما ذكروه من درء الحد بالشبهة معارض بالحكم بالظاهر ، فإن خبر الواحد ظاهر ، مغلب على الظن ثبوت الحد . وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : نحن نحكم بالظاهر . ولو اعتبرت القواطع في الحدود ، لتعطلت ، أو كثر وقوعها ، وطمع مواقعوها .



                قوله : " وفيما يخالف القياس " ، أي : ويقبل خبر الواحد فيما يخالف القياس ، " خلافا لمالك ، وفيما يخالف الأصول " ، أو معنى الأصول ، " خلافا لأبي حنيفة " .

                واعلم أن الفرق بين المسألتين مما يستشكل ; فيقال : ما الفرق بين ما خالف القياس وبين ما خالف الأصول ؟ والحنفية يمثلونه بخبر المصراة ، وهو أيضا مخالف [ ص: 238 ] للقياس ، إذ القياس ضمان المثلي بمثله ، والتمر ليس مثلا للبن .

                والجواب : أن القياس أخص من الأصول ، إذ كل قياس أصل ، وليس كل أصل قياسا ; فما خالف القياس قد خالف أصلا خاصا ، وما خالف الأصول ، يجوز أن يكون مخالفا لقياس ، أو لنص ، أو إجماع ، أو استدلال ، أو استصحاب ، أو استحسان ، أو غير ذلك .

                فقد يكون الخبر مخالفا للقياس ، موافقا لبعض الأصول . وقد يكون بالعكس ، كانتقاض الوضوء بالنوم ، موافق للقياس من حيث إنه تعليق للحكم بمظنته ، كسائر الأحكام المعلقة بمظانها ، وهو مخالف لبعض الأصول ، وهو الاستصحاب ، إذ الأصل عدم خروج الحدث ، وقد ذهب إلى ذلك بعض أهل العلم .

                وقد يكون مخالفا لهما جميعا ، كخبر المصراة ، فإن القياس كما دل على ضمان الشيء بمثله ، كذلك النص والإجماع دل على ذلك ، وقد يكون موافقا لهما ، كالآثار في تحريم النبيذ ، موافقة لقياسه على الخمر ، والنص على الإجماع على تحريمها ، والنص على تحريم كل مسكر .

                والقسمة رباعية ; لأن الخبر إما أن يوافق القياس والأصول ، أو يخالفهما ، أو يوافق أحدهما دون الآخر ، وأصحابنا لم يتركوا حديث القهقهة لمخالفته القياس ، [ ص: 239 ] بل لعدم صحته عندهم .

                قوله : " لنا " ، أي : على تقديم الخبر على القياس ، وإن خالف الأصول ومعناها وجوه :

                أحدها : أن النبي صلى الله عليه وسلم ، صوب معاذا في تقديمه السنة على الاجتهاد ، حيث قال له : بم تحكم ؟ قال : بكتاب الله . قال : فإن لم تجد ؟ قال : بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم . قال : فإن لم تجد ؟ قال : أجتهد رأيي . فصوبه في ذلك ، وهو يقتضي تقديم الخبر على الاجتهاد والقياس مطلقا ، وإن خالفه ، مع أنه لا يظهر فائدة تقديمه عليه إلا إذا خالفه .

                الوجه الثاني : اتفاق الصحابة على ذلك ، أي : على تقديم الخبر على الاجتهاد ; فإنهم إنما كانوا يصيرون إليه عند عدم النصوص ، إذا وجدوها ، تركوه إليها ، كما رجع عمر في غرة الجنين إلى حديث حمل بن مالك ، وكان يفاضل بين دية الأصابع ، ويقسمها على قدر منافعها ; فلما بلغه عن النبي صلى الله عليه وسلم : في كل إصبع عشر من الإبل ، رجع إليه ، وكان بمحضر من الصحابة ; فلو وجب تقديم [ ص: 240 ] القياس لما أقروه على تركه .

                الوجه الثالث : أن الخبر قول للمعصوم ، بخلاف القياس ; فإنه اجتهاد المجتهد ، وليس بمعصوم ، فإذا تعارض قول المعصوم ، وقول من ليس بمعصوم ، كان قول المعصوم أولى بالتقديم ; لأن الخطأ فيه مأمون .

                قوله : " قالوا : القائس على يقين من اجتهاده " ، إلى آخره . هذه معارضة لهذا الوجه الثالث ، وهي أيضا دليل مستقل للخصم .

                وتقريره : أن القائس على يقين من اجتهاده ; لأنه يباشر النظر في أصل القياس ، وفرعه ، وعلته ، وحكمه ، وليس على يقين من صحة الخبر ، لتعدد الوسائط بينه وبين الشارع ، واتباع ما هو على يقين منه أولى من اتباع ما ليس على يقين منه .

                قوله : " قلنا " . هذا جواب الدليل المذكور .

                وتقريره : أن القائس كما أنه ليس على يقين من صحة الخبر ، كذلك هو ليس على يقين من إصابته في القياس ، وكونه على يقين من اجتهاده لا ينفع ; لأن المقصود الإصابة ، وليس على يقين منها . وأما الاجتهاد ; فهو أعم من أن يخطئ أو يصيب ، وإذا استوى الخبر والإصابة في أنه ليس على يقين من واحد منهما ، بقي ما ذكرناه من رجحان الخبر ، بكونه قول المعصوم ، سالما عن المعارض ، وهو أقوى في إفادة الظن من القياس .

                [ ص: 241 ] قوله : " ثم احتمال الخطأ " ، إلى آخره ، هذا ترجيح آخر للخبر .

                وتقريره : أن الخطأ ; وإن كان متطرقا إلى الاجتهاد والخبر جميعا ، غير أن احتمال الخطأ في حقيقة الاجتهاد ، وهو : تحقيق الجامع في القياس ، وإلحاق الفرع بالأصل بواسطته ، وليس احتمال الخطأ في حقيقة الخبر ; لأنه قول المعصوم ، وإنما احتمال الخطأ في طريق الخبر ، بأن يكون فيه راو ضعيف أو علة ما ، وما كان الخطأ متطرقا إلى أمر خارج عنه ، يكون أولى بالتقديم مما كان الخطأ متطرقا إلى حقيقته .

                قوله : " وأيضا مقدمات القياس أكثر ; فالخطأ فيها أغلب " . هذا ترجيح آخر للخبر .

                وتقريره : أن القياس يتوقف على مقدمات كثيرة ، أكثر من المقدمات التي يتوقف عليها الخبر ، وذلك أن القياس يتوقف على معرفة الأصل والفرع ، وتحقيق العلة فيهما ، ثم إلحاق الفرع بالأصل ، وكل واحدة من هذه المقدمات يتطرق الخطأ إلى القياس منها .

                وأما الخبر ; فإنما يتوقف على مقدمة واحدة ، وهي النظر في السند ، والخطأ فيما كثرت مقدماته أغلب منه فيما قلت مقدماته ; فيكون أولى بالتقديم ، خصوصا إن كان سند الخبر قصيرا ، كثلاثيات البخاري ، ونحوها ، فإن احتمال الخطأ هاهنا يكون نادرا .

                قوله : " ثم الوضوء بالنبيذ " ، إلى آخره . هذا نقض على الحنفية .

                [ ص: 242 ] وتقريره : أنكم قد أوجبتم الوضوء بالنبيذ في السفر دون الحضر ، بشرطه عندكم ، وأبطلتم الوضوء بالقهقهة داخل الصلاة ، دون خارج الصلاة ، مع أن ذلك مخالف للأصول .

                قوله : " وهو آحاد عند أئمة النقل " . هذا جواب عن سؤال مقدر لهم ، وهو أنهم يقولون : محل النزاع إنما هو قبول خبر الواحد فيما يخالف الأصول ، وخبر الوضوء بالنبيذ ، وبطلان الوضوء بالقهقهة ، ليس من أخبار الآحاد عندنا ، بل هو متواتر أو مستفيض ، يصلح أن تترك الأصول لمثله ، بخلاف خبر الواحد .

                وجوابه ما ذكرناه ، وهو : أنا لا نسلم أن ذلك متواتر ولا مستفيض ، كما ذكرتم ، بل هو آحاد عند أئمة النقل ، وبعضهم يضعفها ، والاعتبار في النقل بأئمته لا بكم .

                وقد ذكر الترمذي أن حديث النبيذ لم يروه إلا أبو زيد ، وهو كوفي مجهول . وأما حديث القهقهة ; فهو من مراسيل أبي العالية ، وفي إسناده ومتنه ما يمنع الاحتجاج به ، ثم هو معارض بأن أكثر الروايات الصحيحة فيه ; أن الأمر إنما كان بإعادة الصلاة دون الوضوء .

                تنبيه : هكذا وقع الكلام في هذه المسألة في " المختصر " تبعا لأصله ، وذكر [ ص: 243 ] الآمدي تفصيلا ، وهو : أن خبر الواحد إذا خالف القياس ، فإن كان أحدهما أخص من الآخر ، كان القياس مخصصا للخبر ، كما يأتي في العموم والخصوص إن شاء الله تعالى . ويكون الخبر مخصصا للقياس ، إن قلنا بجواز تخصيص العلة .

                وإن لم يكن أحدهما أخص من الآخر ، وتعارضا من كل وجه ، وتعذر الجمع بينهما ; فالخبر مقدم عند الشافعي وأحمد ، وكثير من الفقهاء ، والقياس مقدم عند مالك ، والوقف مذهب القاضي أبي بكر ، قال : والمختار أن علة القياس إن كانت منصوصة ; فخبر الواحد أولى ، إن قلنا إن التنصيص على العلة لا يخرج القياس عن كونه قياسا ; لأن دلالة خبر الواحد إما راجحة على دلالة نص العلة ، أو مساوية لها ، أو مرجوحة بالنسبة إليها ، وبتقدير رجحانها ومساواتها يكون الخبر أولى ، لدلالته على الحكم من غير واسطة ، بخلاف نص العلة ، إذ دلالته بواسطة القياس ، وإنما يترجح دلالة نص العلة إذا كانت راجحة على تقدير واحد ، وإن كانت العلة مستنبطة ; فالخبر أولى مطلقا ، واستدل بخبر معاذ وغيره .

                قلت : هذا تفصيل قد ذكرناه مجردا عن مثال ، تكملة لما في " المختصر " ، وأمثلته تطول ، وربما تعددت ، وذو الدربة يفهم مقصودها مجردة عن مثال ، والله سبحانه وتعالى أعلم .




                الخدمات العلمية