الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                صفحة جزء
                [ ص: 180 ] السابعة : الجمهور : أن الصحابة عدول ، لا حاجة إلى البحث عن عدالتهم . وقيل : إلى أوان الخلاف لشياع المخطئ منهم فيهم . وقيل : هم كغيرهم .

                لنا : ثناء الله ورسوله عليهم ، نحو : لقد رضي الله عن المؤمنين ، والذين معه أشداء على الكفار ، خير الناس قرني ، إن الله اختارني واختار لي أصحابا ، لا تؤذوني في أصحابي ، وسلبهم العدالة أذى له فيهم . ثم فيما تواتر من صلاحهم ، وطاعتهم لله ورسوله غاية التعديل .

                والصحابي : من صحب الرسول صلى الله عليه وسلم ، ولو ساعة ، أو رآه ، مع الإيمان به ، إذ حقيقة الصحبة : الاجتماع بالمصحوب . وقيل : من طالت صحبته له عرفا . وقيل : سنتين ، وغزا معه غزاة أو غزاتين . والأول أولى .

                ويعلم ذلك بإخبار غيره عنه ، أو هو عن نفسه ، وفيه نظر ، إذ هو متهم بتحصيل منصب الصحابة ، ولا يمكن تفريع قبول قوله على عدالتهم ، إذ عدالتهم فرع الصحبة ؛ فلو أثبتت الصحبة بها ، لزم الدور ، والله سبحانه أعلم .

                التالي السابق


                المسألة " السابعة : الجمهور " ، أي : مذهب جمهور العلماء ، الأئمة الأربعة وغيرهم ، أن الصحابة رضي الله عنهم عدول مطلقا ، لا حاجة إلى البحث عن عدالتهم . وقيل : إلى أوان الخلاف ، أي : لم يزالوا عدولا ، حتى وقع الخلف بينهم ، واقتتلوا ؛ لأنهم حينئذ صاروا فئتين ، والحق بالضرورة لا يكون في الطرفين . فإحداهما على باطل قطعا ؛ فهي فاسقة ، لكن الفاسق منهم غير معين ، لاشتباه الأمر ؛ فمن هؤلاء من رد قول الجميع ، لعدم تعين الفاسق منهم من العدل ، ومنهم من قبل قول كل واحد منهم على انفراده ، دون حالة معارضة غيره له ، لعدم تمييز [ ص: 181 ] العدل ، وهذا يعزى إلى بعض المعتزلة ، أحسبه واصل بن عطاء وأصحابه . وهذا معنى قولنا : " لشياع المخطئ منهم " ، أي : من الصحابة رضي الله عنهم ، " فيهم " أي : لصيرورته شائعا لا يعرف ، والضمير في " منهم " ، و " فيهم " عائد إلى الصحابة .

                وقيل : هم كغيرهم أي من رواة الأمة ، يبحث عن عدالتهم ؛ فيقبل قول العدل دون غيره منهم .

                قوله : " لنا : ثناء الله ورسوله عليهم " ، إلى آخره ، هذا دليل القول الأول ، وهو الحكم بعدالتهم مطلقا . وتقريره : أن الله سبحانه وتعالى ، ورسوله ، صلى الله عليه وسلم ، أثنيا عليهم ، وكل من أثنى الله ورسوله عليه ؛ فهو عدل ؛ فالصحابة عدول .

                أما ثناء الله سبحانه وتعالى ، ورسوله عليهم ؛ فدليله من الكتاب : قوله سبحانه وتعالى : لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة فعلم ما في قلوبهم فأنزل السكينة عليهم وأثابهم فتحا قريبا [ الفتح : 18 ] ، يعني بيعة الرضوان بالحديبية ، لهذا سميت بيعة الرضوان ؛ لأن الله عز وجل رضي عنهم لأجلها ، والله عز وجل لا يرضى عن القوم الفاسقين ؛ فدل رضاه عنهم على عدالتهم ، قال تعالى : محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار ، إلى قوله : ليغيظ بهم الكفار [ الفتح : 29 ] ، والكفار لا يغاظون إلا بالمؤمنين العدول ، إذ الفساق غير مرضي عنهم ، حتى يكونوا من جند الإيمان ، ويغاظ بهم الكفار ، وقال سبحانه وتعالى : كنتم خير أمة أخرجت للناس [ آل عمران : 110 ] ، وكذلك جعلناكم أمة وسطا [ البقرة : 143 ] ، والخطاب مع الصحابة ، والوسط وخير الناس هو العدل .

                ودليله من السنة : ما روى عمران بن حصين ، قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، يقول : [ ص: 182 ] خير الناس قرني ، ثم الذين يلونهم ، ثم الذين يلونهم ، الحديث . أخرجاه في " الصحيحين " ، ورواه أبو داود ، والنسائي ، والترمذي وصححه .

                وقال صلى الله عليه وسلم : إن الله اختارني ، واختار لي أصحابا ، وأنصارا ، وأصهارا .

                وقال : لا تؤذوني في أصحابي ، وسلبهم العدالة ، أي : الحكم بأنهم غير عدول ، أذى له فيهم ؛ فيكون منهيا عنه ؛ فيكون القول المؤدي إليه ، وهو سلبهم العدالة ؛ فاسدا .

                وروى عبد الله بن مغفل قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : الله الله في أصحابي ، لا تتخذوهم غرضا بعدي ؛ فمن أحبهم فبحبي أحبهم ، ومن أبغضهم فببغضي أبغضهم ، ومن آذاهم ؛ فقد آذاني ، ومن آذاني ؛ فقد آذى الله ، ومن آذى الله ؛ فيوشك أن يأخذه . رواه الترمذي .

                [ ص: 183 ] ولمسلم من حديث أبي موسى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال : أصحابي أمنة أمتي ، فإذا ذهب أصحابي ، أتى أمتي ما يوعدون . ومن ليس بعدل لا توصى فيه هذه الوصية ، ولا يكون أمنة ، أي : أمانا للأمة .

                قوله : " ثم فيما تواتر " ، إلى آخره ، أي : ولو لم ترد هذه النصوص بتعديلهم ، لكان فيما تواتر من صلاحهم ، وطاعتهم لله ورسوله ، ببذلهم أنفسهم وأموالهم في الجهاد وطاعة رب العباد غاية التعديل .

                فأما ما شجر بينهم من الخلاف ، فلم يكن منهم أحد معاندا للحق فيه ، بل كانوا متأولين ؛ فالمصيب منهم لا نزاع في عدالته ، والمخطئ منهم لا يقدح خطؤه في اجتهاده في عدالته ، كالحاكم .

                [ ص: 184 ] فأما قوله عليه السلام : لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض . فهو نهي وتحذير ، لا إخبار بأن ذلك يقع منهم ، ولا جرم ؛ فإنهم انتهوا بنهي النبي ، صلى الله عليه وسلم ، فلم يقتتلوا قتال كفر وتكفير ، بل قتال اجتهاد وتأويل .

                وأما قوله عليه السلام : ليختلجن ناس من أصحابي عن الحوض . الحديث ؛ فالمراد به أهل الردة ، بدليل قوله في الحديث : إنهم لم يزالوا مرتدين على أعقابهم منذ فارقتهم . والله أعلم .



                قوله : " والصحابي " ، إلى آخره . لما أثبت عدالة الصحابة ، وجب القول [ ص: 185 ] في الصحابي ، المستحق لمنصب العدالة بتعديل الشرع من هو ؟

                فالصحابي : من صحب الرسول عليه السلام مطلق الصحبة ، ولو ساعة ، أو لحظة ، ورآه مع الإيمان به ، إذ حقيقة الصحبة الاجتماع بالمصحوب ، وإنما شرطنا مع ذلك الإيمان ؛ لأن الكفار الذين صحبوه ورأوه عليه السلام ، لا يسمون صحابة بالاتفاق ؛ فدل على أن الإيمان شرط في إطلاق اسم الصحابي .

                " وقيل : من طالت صحبته له " ، أي : وقيل : الصحابي : من طالت صحبته للنبي صلى الله عليه وسلم ، عرفا ؛ لأنه لا يقال في العرف : فلان صاحب فلان ، إلا لمن طالت صحبته له في العرف ، ولو كان مجرد الرؤية مع الاجتماع صحبة ، لكان أكثر الناس بعضهم أصحاب بعض ، إذ أكثرهم يحصل بينهم ذلك .

                " وقيل : سنتين " ، أي : وقيل : الصحابي من صحب النبي صلى الله عليه وسلم ، سنتين ، " وغزا معه غزاة أو غزاتين " . وهذا فيما أظن قول سعيد بن المسيب ، وقد رد بمثل جرير بن عبد الله البجلي ، وهو صحابي باتفاق العلماء ، ولم يصحب النبي صلى الله عليه وسلم ، هذه المدة ؛ لأن إسلامه كان بعد نزول المائدة ، كما صرح به إبراهيم التيمي ، وجرير رضي الله عنه أيضا في حديث المسح على الخفين . والحديث في " الصحيحين " ، والمائدة [ ص: 186 ] من أواخر ما نزل ، وفيها : اليوم أكملت لكم دينكم [ المائدة : 3 ] ، هذا من حيث الاستدلال ، ومن حيث التاريخ ؛ فذكر الشيخ أبو الفرج بن الجوزي في كتابه " التلقيح " أن إسلامه ، يعني : جرير بن عبد الله البجلي ، كان في السنة العاشرة ، وهي آخر سني الهجرة .

                قوله : " والأول أولى " ، أي : أن القول بأن الصحابي من صحبه مطلق الصحبة مع الإيمان ، أولى من القولين الأخيرين . أما قول ابن المسيب ؛ فقد بينا ضعفه . وأما القول الآخر ؛ فلأن الصحابي مشتق من الصحبة ، وبمطلقها يتحقق الاشتقاق ، ولأنه يصح تقسيمها إلى القليل والكثير ، نحو صحبته لحظة ، وسنة ، ودهرا ، ومورد القسمة مشترك ، ولأنه لو حلف : ليصحبن فلانا ، أو لا صحبت فلانا ، حصل الحنث أو البر بمطلق الصحبة ، ولا نسلم أن الصاحب لا يطلق إلا على من طالت صحبته ، بل هو يطلق عليه ، ولا يلزم من إطلاقه عليه عدم إطلاقه على غيره ، بل الأولى أن يكون الإطلاق في جميع [ ص: 187 ] ذلك باعتبار القدر المشترك من الصحبة ، وهو مطلقها ، نفيا للمجاز والاشتراك عن اللفظ .

                قوله : " ويعلم ذلك بإخبار غيره عنه ، أو هو عن نفسه " ، أي : ويعلم كونه صحابيا بإخبار غيره عنه أنه صحابي ؛ لأن ذلك بمثابة التعديل ، وخبر الواحد فيه مقبول ، خصوصا إذا كان صحابيا ، عدلا بتعديل الشرع ، أو بإخباره عن نفسه ، بأن يقول : أنا صحابي .

                قلت : " وفيه نظر " أي : في ثبوت صحبته بقوله ؛ لأنه متهم بتحصيل منصب الصحابة لنفسه ، ولا يمكن تفريع قبول قوله على عدالة الصحابة ، بأن يقال : هذا صحابي عدل ؛ فيقبل خبره بأنه صحابي ؛ لأن عدالة الصحابة فرع الصحبة ؛ فلو أثبتت الصحبة بعدالة الصحابة ، لزم الدور .

                أما أن عدالة الصحابة فرع الصحبة ؛ فلأنا لا نحكم بهذه العدالة إلا لمن ثبتت صحبته دون غيره ؛ فنقول : هذا صحابي ؛ فيكون عدلا بالأدلة السابقة .

                وأما أنه لو أثبتت الصحبة بعدالة الصحابة ، لزم الدور ؛ فلأنه يلزم إثبات الأصل - وهو الصحبة - بالفرع - وهو العدالة - وإثبات الأصل بالفرع دور محال ، والشيخ أبو محمد زعم أن إثبات صحبة الراوي بقوله : أنا صحابي ، لا يلحق غيره مضرة ، ولا يوجب تهمة ، وهما ممنوعان . بل يوجب تهمة ، وهو تحصيل منصب الصحبة لنفسه ، ويضر بالمسلمين ، حيث يلزمهم قبول ما يرويه مع هذه التهمة ، والله سبحانه أعلم .




                الخدمات العلمية