الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                صفحة جزء
                [ ص: 79 ] الثانية : العلم التواتري ضروري عند القاضي ، نظري عند أبي الخطاب ، ووافق كلا آخرون .

                الأول : لو كان نظريا ، لما حصل لمن ليس من أهل النظر ، كالنساء والصبيان ، ولأن الضروري ما اضطر العقل إلى التصديق به ، وهذا كذلك .

                الثاني : لو كان ضروريا ، لما افتقر إلى النظر في المقدمتين ، وهي اتفاقهم على الإخبار ، وعدم تواطئهم على الكذب .

                والخلاف لفظي ، إذ مراد الأول بالضروري : ما اضطر العقل إلى تصديقه ، والثاني : البديهي : الكافي في حصول الجزم به تصور طرفيه ، والضروري منقسم إليهما ; فدعوى كل ، غير دعوى الآخر ، والجزم به حاصل على القولين .

                التالي السابق


                المسألة " الثانية : العلم التواتري " أي : الحاصل عن خبر التواتر ، " ضروري عند القاضي " أبي يعلى " نظري " ، أي : يحصل بالنظر ، ويتوقف عليه عند أبي الخطاب ووافق كلا آخرون ، أي : كل واحد من القاضي وأبي الخطاب ، وافقه على قوله آخرون ، أي : جماعة من أهل العلم .

                أما القاضي ; فوافقه الجمهور ، وأما أبو الخطاب فوافقه الكعبي ، وأبو الحسين البصري من المعتزلة ، وإمام الحرمين ، والغزالي ، والدقاق من أصحاب الشافعي ، واختار الآمدي الوقف لقيام الشبهة الضعيفة عنده من الطرفين .

                قوله : " الأول " أي : احتج الأول - وهو القائل بأنه ضروري - بوجهين :

                أحدهما : أن العلم التواتري " لو كان نظريا ، لما حصل لمن ليس من أهل النظر ، كالنساء والصبيان " ، والحمقى ، ونحوهم . لكنه حاصل لهؤلاء ; فلا يكون [ ص: 80 ] نظريا ; فيكون ضروريا ، وهذا الوجه بين بنفسه .

                الوجه الثاني : أن العلم " الضروري ما اضطر العقل إلى التصديق به ، وهذا " ، أي العلم التواتري ، كذلك فيكون ضروريا ; لأنه مشتق من اضطرار العقل إلى التصديق به ، أو منسوب إليه ، ولا يشك أحد ممن بلغه وجود مكة بالتواتر ، في أن عقله يضطره إلى التصديق به .

                قوله : " الثاني " ، أي احتج الثاني ، وهو القائل بأن العلم التواتري نظري ، بأنه " لو كان ضروريا ، لما افتقر إلى النظر " ، لكنه افتقر إلى النظر ; فلا يكون ضروريا . أما الملازمة ; فظاهرة ، وأما انتفاء اللازم ، أعني : افتقار هذا العلم إلى النظر ; فلأنه يتوقف حصوله على مقدمتين :

                إحداهما : أن هؤلاء اتفقوا على الإخبار بوجود مكة مثلا .

                والثانية : أن تواطؤهم على الكذب يمتنع عادة ; فلزم من المقدمتين حصول العلم الضروري بطريق الإنتاج القياسي .

                وتقريره على الوجه الصناعي أن وجود مكة مثلا ، أخبر به جمع يمتنع تواطؤهم على الكذب عادة ، وكل ما أخبر به جمع يمتنع تواطؤهم على الكذب عادة ; فهو معلوم ; فوجود مكة معلوم ، ولا نعني بالعلم النظري إلا هذا .

                قلت : وأجاب الأولون عن هذا بأن المقدمات التي يتوقف حصول هذا العلم على النظر فيها حاصلة في أوائل الفطرة ; فهو لا يحتاج إلى كبير تأمل ، ومثله لا يسمى [ ص: 81 ] نظريا ; إنما النظري ما توقف على أهلية النظر ، وليس هذا كذلك . هذا ما أجابوا به ، وهو جيد ، لا بأس به .

                قوله : " والخلاف لفظي " إلى آخره . هذا مبني على جهة الوساطة بين الفريقين ، جمعا بين القولين ، وذلك لأن القائل بأنه ضروري ; لا ينازع في توقفه على النظر في المقدمات المذكورة ، والقائل بأنه نظري ; لا ينازع في أن العقل يضطر إلى التصديق به ، وإذا وافق كل واحد من الفريقين صاحبه على ما يقوله في حكم هذا العلم وصفته ; لم يبق النزاع بينهما إلا في اللفظ ، وهو أن الأول سمى ما يضطر العقل إلى التصديق به - وإن توقف على مقدمات نظرية - ضروريا ، والثاني سمى ما يتوقف على النظر في المقدمات - وإن كانت فطرية بينة - نظريا ، وخص الضروري بالبديهي ، وهو الكافي في حصول الجزم به تصور طرفيه ، كقولنا : الواحد نصف الاثنين ، فإن من تصور حقيقة الواحد ; وتصور حقيقة الاثنين ; حصل له العلم بأن الواحد نصف الاثنين .

                وهذا معنى قولي : " إذ مراد الأول بالضروري ما اضطر العقل إلى تصديقه " ، أي : سواء توقف على مقدمات بينة أو لا ، " والثاني " : أي : ومراد الثاني بالضروري ، " البديهي الكافي في حصول الجزم به " أي : التصديق الجازم به تصور طرفيه ، أعني الموضوع والمحمول ، وإن شئت المحكوم والمحكوم عليه ، نحو : العالم موجود ، والمعدوم لا يكون موجودا حال عدمه ، والقديم لا يكون [ ص: 82 ] حادثا ، وبالعكس فيهما . بخلاف قولنا : العالم حادث ، أو ليس بقديم ; فإنه لا بد في التصديق به من واسطة ; فنقول : العالم مؤلف ، وكل مؤلف محدث ، أو ليس بقديم .

                قوله : " والضروري منقسم إليهما " ، أي : العلم الضروري منقسم إلى البديهي ، الذي يدرك بالبديهة ، من غير احتياج إلى واسطة نظر ، وإلى ما اضطر العقل إلى التصديق به بواسطة النظر .

                قوله : " فدعوى كل " ، أي كل واحد من الفريقين ، " غير دعوى الآخر " ، هذا بيان لعدم توارد حجة الفريقين على مورد واحد ; لأن الأول يقول : هو ضروري متوقف على الوساطة البينة ، والآخر يقول : ليس بديهيا غنيا عن الواسطة مطلقا .

                وقد بينا أن كل واحد منهما موافق للآخر على قوله ، " والجزم به حاصل على القولين " ، أي : كل واحد من الخصمين يقول : إن التواتر مفيد العلم الجازم ، لكن تنازعا في تسميته ضروريا أو نظريا .

                قلت : قد سبق عند ذكرنا للعمل أنه الحكم الجازم المطابق لموجب ، وأن ذلك الموجب إما عقل ، أو سمع ، أو مركب منهما ، وهو التواتر ; لتركبه من نقل النقلة ، ونظر السامع في المقدمتين المذكورتين ; فصار التواتر كالواسطة بين القسمين ; فلذلك وقع فيه النزاع ، وعلى هذا يترتب تقسيم العلم إلى قطعي وظني . والقطعي : إما بديهي محض ، أو نظري محض ، أو متوسط بينهما ، وهو التواتري ، كما قد رأيت ، والله أعلم .




                الخدمات العلمية