الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله شاهدين على أنفسهم بالكفر ) قرأ ابن السميقع : أن يعمروا بضم الياء وكسر الميم ، أن يعينوا على عمارته . وقرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، والجحدري : مسجد بالإفراد ، وباقي السبعة ومجاهد وقتادة وأبو جعفر والأعرج وشيية بالجمع .

ومناسبة هذه الآية لما قبلها أنه تعالى لما ذكر البراءة من المشركين وأنواعا من قبائحهم توجب البراءة منهم ، ذكروا أنهم موصوفون بصفات حميدة توجب انتفاء البراءة منها كونهم عامري المسجد الحرام . روي أنه أقبل المهاجرون والأنصار على أسارى بدر يعيرونهم بالشرك ، وطفق علي يوبخ العباس ، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم : واقطيعة الرحم ، وأغلظ له في القول . فقال العباس : تظهرون مساوينا ، وتكتمون محاسننا ؟ فقال : أولكم محاسن ؟ قالوا : نعم ، ونحن أفضل منكم أجرا ، إنا لنعمر المسجد الحرام ، ونحجب الكعبة ، ونسقي الحجيج ، ونفك العاني ، فأنزل الله هذه الآية ردا عليهم . ومعنى ( ما كان للمشركين ) : أي بالحق الواجب ، وإلا فقد عمروه قديما وحديثا على سبيل التغلب . وقال الزمخشري : أي ما صح وما استقام انتهى . وعمارته دخوله والقعود فيه والمكث من قولهم : فلان يعمر المسجد ; أي يكثر غشيانه ، أو رفع بنائه ، وإصلاح ما تهدم منه ، أو التعبد فيه ، والطواف به . والصلاة ثلاثة أقوال ، ومن قرأ بالإفراد فيحتمل أن يراد به المسجد الحرام ; لقوله : ( وعمارة المسجد الحرام ) ، أو الجنس فيدخل تحته المسجد الحرام ، إذ هو صدر ذلك الجنس [ ص: 19 ] مقدمته . ومن قرأ بالجمع فيحتمل أن يراد به المسجد الحرام ، وأطلق عليه الجمع إما باعتبار أن كل مكان منه مسجد ، وإما لأنه قبلة المساجد كلها وإمامها ، فكان عامره عامر المساجد . ويحتمل أن يراد الجمع ، فيدخل تحته المسجد الحرام وهو آكد ; لأن طريقته طريقة الكناية كما لو قلت : فلان لا يقرأ كتب الله ، كنت أنفى لقراءة القرآن من تصريحك بذلك . وانتصب ( شاهدين ) على الحال ، والمعنى : ما استقام لهم أن يجمعوا بين أمرين متنافيين : عمارة متعبدات الله تعالى مع الكفر به وبعبادته .

وقرأ زيد بن علي : شاهدون على إضمار هم شاهدون ، وشهادتهم على أنفسهم بالكفر قولهم في الطواف : لبيك لبيك ، لا شريك لك ، إلا شريكا هو لك ، تملكه وما ملك ، أو قولهم إذا سئلوا عن دينهم : نعبد اللات والعزى ، أو تكذيبهم الرسول ، أو قول المشرك : أنا مشرك كما يقول اليهودي هو يهودي ، والنصراني هو نصراني ، والمجوسي هو مجوسي ، والصابئ هو صابئ ، أو ظهور أفعال الكفرة من نصب أصنامهم وطوافهم بالبيت عراة ، وغير ذلك أقوال خمسة ، هذا إذا حمل ( على أنفسهم ) على ظاهره ، وقيل : معناه شاهدين على رسولهم ، وأطلق عليه أنفسهم ; لأنه ما من بطن من بطون العرب إلا وله فيهم ولادة ، ويؤيد هذا القول قراءة من قرأ على أنفسهم بفتح الفاء ، أي أشرفهم وأجلهم قدرا .

( أولئك حبطت أعمالهم ) التي هي العمارة والحجابة والسقاية وفك العناة وغيرها مما ذكر أنه من الأعمال الحميدة . قال الزمخشري : وإذا هدم الكفر أو الكبيرة الأعمال الثابتة الصحيحة إذا تعقبها ، فما ظنك بالمقارن ؟ وإلى ذلك أشار تعالى بقوله : ( شاهدين ) حيث جعله حالا عنهم ، ودل على أنهم قارنون بين العمارة والشهادة بالكفر على أنفسهم في حال واحدة ، وذلك محال غير مستقيم انتهى . وقوله : أو الكبيرة دسيسة اعتزال ; لأن الكبيرة عندهم من المعاصي تحبط الأعمال .

( وفي النار هم خالدون ) ذكر مآل المشركين وهو النار خالدين فيها . وقرأ زيد بن علي : بالياء نصبا على الحال ، و ( في النار ) هو الخبر . كما تقول : في الدار زيد قاعدا . وقال الواحدي : دلت الآية على أن الكفار ممنوعون من عمارة مسجد المسلمين ، ولو أوصى لم تقبل وصيته ، ويمنع من دخول المساجد ، فإن دخل بغير إذن مسلم استحق التعزير ، وإن دخل بإذن لم يعزر ، والأولى تعظيم المساجد ومنعها منهم . وقد أنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم وفد ثقيف وهم كفار المسجد ، وربط ثمامة بن أثال الحنفي في سارية من سواري المسجد وهو كافر .

( إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر وأقام الصلاة وآتى الزكاة ولم يخش إلا الله فعسى أولئك أن يكونوا من المهتدين ) قرأ الجحدري ، وحماد بن أبي سلمة عن ابن كثير : مسجدا لله بالتوحيد ، وقرأ السبعة وجماعة : بالجمع ، والمعنى : إنما يعمرها بالحق والواجب ، ويستقيم ذلك فيمن اتصف بهذه الأوصاف . وفي ضمن هذا الخبر أمر المؤمنين بعمارة المساجد ، ويتناول عمارتها رم ما تهدم منها ، وتنظيفها ، وتنويرها ، وتعظيمها ، واعتيادها للعبادة والذكر . ومن الذكر درس العلم بل هو أجله ، وصونها عما لم تبن له من الخوض في أحوال الدنيا . وفي الحديث : " إذا رأيتم الرجل يعتاد المسجد فاشهدوا له بالإيمان " ولم يذكر الإيمان بالرسول ; لأن الإيمان باليوم الآخر إنما هو متلقف من أخبار الرسول ، فيتضمن الإيمان بالرسول . أو لم يذكر لما علم وشهر من أن الإيمان بالله تعالى قرينته الإيمان بالرسول صلى الله عليه وسلم ؛ لاشتمال كلمة الشهادة والأذان والإقامة وغيرها عليهما مقترنين مزدوجين ، كأنهما شيء واحد لا ينفك أحدهما عن صاحبه ، فانطوى تحت ذكر الإيمان بالله تعالى الإيمان بالرسول صلى الله عليه وسلم . وقيل : دل عليه بذكر إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة ، إذ لا يتلقى ذلك إلا منه . والمقصود من بناء المساجد وعمارتها هو كونها مجتمعا لإقامة الصلوات فيها والتعبدات من الذكر والاعتكاف وغيرهما ، وناسب ذكر إيتاء [ ص: 20 ] الزكاة مع عمارة المساجد أنها لما كانت مجمعا للناس بان فيها أمر الغني والفقير ، وعرفت أحوال من يؤدي الزكاة ومن يستحقها .

( ولم يخش إلا الله ) . قال ابن عطية : يريد خشية التعظيم والعبادة والطاعة ، ولا محالة أن الإنسان يخشى غيره ، ويخشى المحاذير الدنيوية ، وينبغي أن يخشى في ذلك كله قضاء الله وتصريفه . وقال الزمخشري : هي الخشية والتقوى في أبواب الدنيا ، وأن لا يختار على رضا الله رضا غيره ، وإذا اعترضه أمران أحدهما حق الله تعالى ، والآخر حق نفسه ، خاف الله وآثر حق الله على حق نفسه . وقيل : كانوا يخشون الأصنام ويرجونها ، فأريد نفي تلك الخشية عنهم انتهى . وعسى من الله تعالى واجب حيثما وقعت في القرآن ، وفي ذلك قطع أطماع المشركين أن يكونوا مهتدين ؛ إذ من جمع هذه الخصال الأربعة جعل حاله حال من ترجى له الهداية ، فكيف بمن هو عار منها ، وفي ذلك ترجيح الخشية على الرجاء ، ورفض الاغترار بالأعمال الصالحة ، فربما دخلها بعض المفسدات وصاحبها لا يشعر بها . وقال تعالى : ( أن يكونوا من المهتدين ) ; أي : من الذين سبقت لهم الهداية ، ولم يأت التركيب أن يكونوا مهتدين ، بل جعلوا بعضا من المهتدين ، وكونهم منهم أقل في التعظيم من أن يجرد لهم الحكم بالهداية .

( أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم الآخر وجاهد في سبيل الله لا يستوون عند الله والله لا يهدي القوم الظالمين ) في صحيح مسلم من حديث النعمان بن بشير قال : كنت عند منبر رسول الله فقال رجل : ما أبالي أن لا أعمل عملا بعد أن أسقي الحاج ، وقال الآخر : ما أبالي أن لا أعمل عملا بعد أن أعمر المسجد الحرام ، وقال آخر : الجهاد في سبيل الله أفضل مما قلتم ، فزجرهم عمر وقال : لا ترفعوا أصواتكم عند منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو يوم الجمعة ، ولكني إذا صليت الجمعة دخلت فاستفتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما اختلفتم فيه ، فنزلت هذه الآية . وذكر ابن عطية وقوله أقوالا أخر في سبب النزول كلها تدل على الافتخار بالسقاية والعمارة .

وقرأ الجمهور : ( سقاية ) ( وعمارة ) ، وهما مصدران نحو الصيانة والوقاية ، وقوبلا بالذوات ، فاحتيج إلى حذف من الأول ؛ أي : أهل سقاية ، أو حذف من الثاني ؛ أي : كعمل من آمن . وقرأ ابن الزبير ، والباقر ، وأبو حيوة : سقاة الحاج ، وعمرة المسجد ، جمع ساق وجمع عامر كرام ورماة وصانع وصنعة ، وقرأ ابن جبير كذلك ، إلا أنه نصب المسجد على إرادة التنوين في ( عمرة ) ، وقرأ الضحاك : سقاية بضم السين ، وعمرة بني الجمع على فعال كرخل ورخال ، وظئر وظؤار ، وكان المناسب أن يكون بغير هاء ، لكنه أدخل الهاء كما دخلت في حجارة . وكانت السقاية في بني هاشم ، وكان العباس يتولاها ، ولما نزلت هذه الآية قال العباس : ما أراني إلا أترك السقاية ، فقال النبي : " أقيموا عليها فهي لكم خير " وعمارة المسجد هي السدانة ، وكان في بني عبد الدار ، وشيبة وعثمان بن طلحة هما اللذان دفع إليهما رسول الله مفتاح الكعبة في ثامن يوم الفتح بعد أن طلبه العباس وعلي ، وقال لعثمان وشيبة : " خذوها خالدة تالدة لا ينازعكما عليها إلا ظالم " ; يعني السدانة . ومعنى الآية : إنكار أن يشبه المشركون بالمؤمنين وأعمالهم المحبطة بأعمالهم المثبتة . ولما نفى المساواة بينهما أوضح بقوله : ( والله لا يهدي القوم الظالمين ) ، من الراجح منهما ، وأن الكافرين بالله هم الظالمون ، ظلموا أنفسهم بترك الإيمان بالله ، وبما جاء به الرسول ، وظلموا المسجد الحرام إذ جعله الله متعبدا لهم فجعلوه متعبدا لأوثانهم . وذكر في المؤمنين إثبات الهداية لهم بقوله : ( فعسى أولئك أن يكونوا من المهتدين ) وفي المشركين هنا نفى الهداية بقوله : ( والله لا يهدي القوم الظالمين ) .

[ ص: 21 ] ( الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم أعظم درجة عند الله وأولئك هم الفائزون ) زادت هذه الآية وضوحا في الترجيح للمؤمنين المتصفين بهذه الأوصاف على المشركين المفتخرين بالسقاية والعمارة ، فطهروا أنفسهم من دنس الشرك بالإيمان ، وطهروا أبدانهم بالهجرة إلى موطن الرسول وترك ديارهم التي نشئوا عليها ، ثم بالغوا بالجهاد في سبيل الله بالمال والنفس المعرضين بالجهاد للتلف . فهذه الخصال أعظم درجات البشرية ، و ( أعظم ) هنا يسوغ أن تبقى على بابها من التفضيل ، ويكون ذلك على تقدير اعتقاد المشركين بأن في سقايتهم وعمارتهم فضيلة ، فخوطبوا على اعتقادهم . أو يكون التقدير : أعظم درجة من الذين آمنوا ولم يهاجروا ولم يجاهدوا . وقيل : ( أعظم ) ليست على بابها ، بل هي كقوله : ( أصحاب الجنة يومئذ خير مستقرا ) ، وقول حسان :


فشركما لخيركما الفداء



وكأنه قيل : عظيمون درجة . و ( عند الله ) بالمكانة لا بالمكان كقوله : ( ومن عنده لا يستكبرون عن عبادته ) قال أبو عبد الله الرازي : الأرواح المقدسة البشرية إذا تطهرت عن دنس الأوصاف البدنية والقاذورات الجسدانية أشرقت بأنوار الجلال ، وعلا فيها أضواء عالم الجمال ، وترقت من العبدية إلى العندية ، بل كأنه لا كمال في العبدية إلا بمشاهدة الحقيقة العندية ، ولذلك قال تعالى : ( سبحان الذي أسرى بعبده ليلا ) انتهى ، وهو شبيه بكلام الصوفية ، ثم ذكر تعالى أن من اتصف بهذه الأوصاف هو الفائز الظافر بأمنيته ، الناجي من النار .

( يبشرهم ربهم برحمة منه ورضوان وجنات لهم فيها نعيم مقيم خالدين فيها أبدا إن الله عنده أجر عظيم ) قال ابن عباس : هي في المهاجرين خاصة انتهى ، وأسند التبشير إلى قوله : ربهم ، لما في ذلك من الإحسان إليهم بأن مالك أمرهم والناظر في مصالحهم هو الذي يبشرهم ، فذلك على تحقيق عبوديتهم لربهم . ولما كانت الأوصاف التي تحلوا بها وصاروا بها عبيده حقيقة هي ثلاثة : الإيمان ، والهجرة ، والجهاد بالمال والنفس ، قوبلوا في التبشير بثلاثة : الرحمة ، والرضوان ، والجنات . فبدأ بالرحمة ; لأنها الوصف الأعم الناشئ عنها تيسير الإيمان لهم ، وثنى بالرضوان ; لأنه الغاية من إحسان الرب لعبده وهو مقابل الجهاد ، إذ هو بذل النفس والمال ، وقدم على الجنات ؛ لأن رضا الله عن العبد أفضل من إسكانهم الجنة . وفي الحديث الصحيح : " إن الله تعالى يقول : يا أهل الجنة ، هل رضيتم ؟ فيقولون : يا ربنا كيف لا نرضى وقد باعدتنا عن نارك وأدخلتنا جنتك ، فيقول : لكم عندي أفضل من ذلك ، فيقولون : وما أفضل من ذلك ؟ فيقول : أحل عليكم رضائي فلا أسخط عليكم بعدها " ، وأتى ثالثا بقوله : ( وجنات لهم فيها نعيم مقيم ) ; أي دائم لا ينقطع . وهذا مقابل لقوله " وهاجروا " ؛ لأنهم تركوا أوطانهم التي نشئوا فيها وكانوا فيها منعمين ، فآثروا الهجرة على دار الكفر إلى مستقر الإيمان والرسالة ، فقوبلوا على ذلك بالجنات ذوات النعيم الدائم ، فجاء الترتيب في أوصافهم على حسب الواقع : الإيمان ، ثم الهجرة ، ثم الجهاد . وجاء الترتيب في المقابل على حسب الأعم ، ثم الأشرف ، ثم التكميل . قال التبريزي : ونكر الرحمة والرضوان للتفخيم والتعظيم . ( برحمة ) أي : رحمة لا يبلغها وصف واصف .

وقرأ الأعمش ، وطلحة بن مصرف ، وحميد بن هلال : يبشرهم بفتح الياء وضم الشين خفيفة . وقرأ عاصم في رواية أبي بكر : ورضوان بضم الراء ، وتقدم ذكر ذلك في أوائل آل عمران . وقرأ الأعمش : بضم الراء والضاد معا . قال أبو حاتم : لا يجوز هذا انتهى . وينبغي أن يجوز ، فقد قالت العرب : سلطان بضم اللام ، وأورده التصريفيون في أبنية الأسماء .

التالي السابق


الخدمات العلمية