الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( سيحلفون بالله لكم إذا انقلبتم إليهم لتعرضوا عنهم فأعرضوا عنهم إنهم رجس ومأواهم جهنم جزاء بما كانوا يكسبون ) : لما ذكر أنهم يصدر منهم الاعتذار أخبر أنهم سيؤكدون ذلك الاعتذار الكاذب بالحلف ، وأن سبب الحلف هو طلبتهم أن يعرضوا عنهم فلا يلوموهم ولا يوبخوهم ، فأعرضوا عنهم ، أي : فأجيبوا إلى طلبتهم . وعلل الإعراض عنهم بأنهم رجس ، أي مستقذرون بما انطووا عليه من النفاق ، فتجب مباعدتهم واجتنابهم ; كما قال : ( رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه ) فمن كان رجسا لا تنفع فيه المعاتبة ، ولا يمكن تطهير الرجس . ويحتمل أن يكون سبب الحلف مخافتهم أن يعرضوا عنهم فلا يقبلوا عليهم ولا يوادوهم ، فأمر تعالى بالإعراض عنهم وعدم توليهم ، وبين العلة في ذلك برجسيتهم ، وبأن مآل أمرهم إلى النار . قال ابن عباس : ( فأعرضوا عنهم ) لا تكلموهم . وفي الخبر أنه عليه السلام لما قدم من تبوك ، قال : لا تجالسوهم ولا تكلموهم .

قيل : إن هذه الآية من أول ما نزل في شأن المنافقين في غزوة تبوك ، وكان قد اعتذر بعض المنافقين واستأذنوه في القعود قبل مسيره ، فأذن ، فخرجوا ، وقال أحدهم : ما هو إلا شحمة لأول آكل ، فلما خرج الرسول نزل فيهم القرآن ، فانصرف رجل من القوم فقال للمنافقين في مجلس منهم : نزل فيكم قرآن فقالوا له : وما ذلك ؟ قال : لا أحفظ ، إلا أني سمعت وصفكم فيه بالرجس ، فقال لهم مخشي : لوددت أن أجلد مائة ولا أكون معكم ، فخرج حتى لحق بالرسول صلى الله عليه وسلم ، فقال له : " ما جاء بك " ؟ فقال له : وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم تسفعه الريح ، وأنا في الكن . فروي أنه ممن تاب . قال ابن عطية : ( فأعرضوا عنهم ) أمر بانتهارهم وعقوبتهم بالإعراض والوصم بالنفاق ، وهذا مع إجمال لا مع تعيين مصرح من الله ولا من رسوله ، بل كان لكل واحد منهم ميدان المقالة مبسوطا . وقوله : ( رجس ) أي : نتن وقذر . وناهيك بهذا الوصف محطة دنيوية ، ثم عطف لمحطة الآخرة . ومن حديث كعب بن مالك : أنهم جاءوا يعتذرون ويحلفون لما قدم المدينة ، وكانوا بضعة وثمانين ، فقبل منهم علانيتهم وبايعهم واستغفر لهم ، ووكل سرائرهم إلى الله .

( يحلفون لكم لترضوا عنهم فإن ترضوا عنهم فإن الله لا يرضى عن القوم الفاسقين ) : قال مقاتل : نزلت في عبد الله بن أبي حلف بالله الذي لا إله إلا هو لا يتخلف عنه بعدها ، [ ص: 90 ] وحلف ابن أبي سرح لنكونن معه على عدوه ، وطلب من الرسول أن يرضى عنه ، فنزلت ، وهنا حذف المحلوف به ، وفي قوله : ( سيحلفون بالله ) أثبت كقوله : ( إذ أقسموا ليصرمنها ) وقوله : ( وأقسموا بالله ) فلا فرق بين حذفه وإثباته في انعقاد ذلك يمينا . وغرضهم في الحلف رضا الرسول والمؤمنين لنفعهم في دنياهم ، لا أن مقصدهم وجه الله تعالى . والمراد : هي أيمان كاذبة ، وأعذار مختلقة لا حقيقة لها . وفي الآية قبلها لما ذكر حلفهم لأجل الإعراض ، جاء الأمر بالإعراض نصا ، لأن الإعراض من الأمور التي تظهر للناس ، وهنا ذكر الحلف لأجل الرضا فأبرز النهي عن الرضا في صورة شرطية ؛ لأن الرضا من الأمور القلبية التي تخفى ، وخرج مخرج المتردد فيه ، وجعل جوابه انتفاء رضا الله عنهم ، فصار رضا المؤمنين عنهم أبعد شيء في الوقوع ؛ لأنه معلوم منهم أنهم لا يرضون عمن لا يرضى الله عنهم . ونص على الوصف الموجب لانتفاء الرضا وهو الفسق ، وجاء اللفظ عاما ، فيحتمل أن يراد به الخصوص كأنه قيل : فإن الله لا يرضى عنهم ، ويحتمل بقاؤه على العموم فيندرجون فيه ويكونون أولى بالدخول ؛ إذ العام إذا نزل على سبب مخصوص لا يمكن إخراج ذلك السبب من العموم بتخصيص ولا غيره .

( الأعراب أشد كفرا ونفاقا وأجدر ألا يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله والله عليم حكيم ) : نزلت في أعراب من أسد ، وتميم ، وغطفان . ومن أعراب حاضري المدينة ، أي : أشد كفرا من أهل الحضر . وإذا كان الكفر متعلقا بالقلب فقط ، فالتقدير : أشد أسباب كفر ، وإذا دخلت فيه أعمال الجوارح تحققت فيه الشدة . وكانوا أشد كفرا ونفاقا لتوحشهم واستيلاء الهواء الحار عليهم ، فيزيد في تيههم ونخوتهم وفخرهم وطيشهم وتربيتهم بلا سائس ولا مؤدب ولا ضابط ، فنشئوا كما شاءوا لبعدهم عن مشاهدة العلماء ومعرفة كتاب الله وسنة رسول الله ، ولبعدهم عن مهبط الوحي . كانوا أطلق لسانا بالكفر والنفاق من منافقي المدينة ، إذ كان هؤلاء يستولي عليهم الخوف من المؤمنين ، فكان كفرهم سرا ولا يتظاهرون به إلا تعريضا . ( وأجدر ) ، أي : أحق ، ( ألا يعلموا ) ، أي : بأن لا يعلموا . والحدود هنا : الفرائض . وقيل : الوعيد على مخالفة الرسول ، والتأخر عن الجهاد . وقيل : مقادير التكاليف والأحكام . وقال قتادة : أقل علما بالسنن . وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن الجفاء والقسوة في الفدادين " . ( والله عليم ) يعلم كل أحد من أهل الوبر والمدر ، ( حكيم ) فيما يصيب به مسيئهم ومحسنهم من ثواب وعقاب .

( ومن الأعراب من يتخذ ما ينفق مغرما ويتربص بكم الدوائر عليهم دائرة السوء والله سميع عليم ) : نزلت في أعراب أسد ، وغطفان ، وتميم ، كانوا يتخذون ما يؤخذ منهم من الصدقات . وقيل : من الزكاة ، ولذلك قال بعضهم : ما هي إلا جزية أو قريبة من الجزية . وقيل : كل نفقة لا تهواها أنفسهم وهي مطلوبة شرعا ، وهو ما ينفقه الرجل وليس يلزمه ؛ لأنه لا ينفق إلا تقية من المسلمين ورياء ، لا لوجه الله تعالى وابتغاء المثوبة عنده فعل هذا . المغرم : إلزام ما لا يلزم . وقيل : المغرم : الغرم والخسر ، وهو قول ابن قتيبة ، وقريب من الذي قبله . وقال ابن فارس : المغرم ما لزم أصحابه ، والغرام اللازم ، ومنه الغريم للزومه وإلحاحه . والتربص : الانتظار . والدوائر : هي المصائب التي لا مخلص منها ، تحيط به كما تحيط الدائرة . وقيل : تربص الدوائر هنا موت الرسول صلى الله عليه وسلم وظهور الشرك . وقال الشاعر :


تربص بها ريب المنون لعلها تطلق يوما أو يموت حليلها



وتربص الدوائر ليخلصوا من إعياء النفقة ، وقوله : ( عليهم دائرة السوء ) دعاء معترض ، دعاء عليهم بنسبة ما أخبر به عنهم كقوله : ( وقالت اليهود يد الله مغلولة غلت أيديهم ) والدعاء من الله هو بمعنى إنجاب الشيء ; [ ص: 91 ] لأنه تعالى لا يدعو على مخلوقاته وهي في قبضته . وقال الكرماني : عليهم تدور المصائب والحروب التي يتوقعونها على المسلمين ، وهنا وعد للمسلمين وإخبار . وقيل : دعاء ، أي : قولوا عليهم دائرة السوء ، أي : المكروه ، وحقيقة الدائرة ما تدور به الأيام . وقيل : يدور به الفلك في سيره ، والدوائر انقلاب النعمة إلى ضدها . وفي الحجة : يجوز أن تكون الدائرة مصدرا كالعاقبة ، ويجوز أن تكون صفة . وقرأ ابن كثير وأبو عمرو : ( السوء ) هنا . وفي سورة الفتح ثانية بالضم ، وباقي السبعة بالفتح ، فالفتح مصدر . قال الفراء : سؤته سوءا ومساءة وسوائية ، والضم الاسم وهو الشر والعذاب ، والفتح ذم الدائرة ، وهو من باب إضافة الموصوف إلى صفته ، وصفت الدائرة بالمصدر كما قالوا : رجل سوء في نقيض رجل صدق ، يعنون في هذا الصلاح ، لا صدق اللسان ، وفي ذلك الفساد . ومنه ( ما كان أبوك امرأ سوء ) أي : امرأ فاسدا . وقال المبرد : السوء بالفتح الرداءة ، ولا يجوز ضم السين في رجل سوء ، قاله أكثرهم . وقد حكي بالضم ، وقال الشاعر :


وكنت كذيب السوء لما رأى دما     بصاحبه يوما أحال على الدم



) والله سميع ) لأقوالهم ، ( عليم ) بنياتهم .

( ومن الأعراب من يؤمن بالله واليوم الآخر ويتخذ ما ينفق قربات عند الله وصلوات الرسول ألا إنها قربة لهم سيدخلهم الله في رحمته إن الله غفور رحيم ) : نزلت في بني مقرن من مزينة ، قاله مجاهد . وقال عبد الرحمن بن مغفل بن مقرن : كنا عشرة ولد مقرن ، فنزلت : ( ومن الأعراب من يؤمن ) الآية ، يريد : الستة والسبعة الإخوة على الخلاف في عددهم وبنيهم . وقال الضحاك : في عبد الله ذي النجادين ورهطه . وقال الكلبي : في أسلم وغفار وجهينة . ولما ذكر تعالى : ( من يتخذ ما ينفق مغرما ) ; ذكر مقابله وهو من يتخذ ما ينفق مغنما ، وذكر هنا الأصل الذي يترتب عليه إنفاق المال في القربات ، وهو الإيمان بالله واليوم الآخر ، إذ جزاء ما ينفق إنما يظهر ثوابه الدائم في الآخرة . وفي قصة أولئك اكتفى بذكر نتيجة الكفر وعدم الإيمان ، وهو اتخاذه ما ينفق مغرما وتربصه بالمؤمنين الدوائر . والأجود تعميم القربات من جهاد وصدقة ، والمعنى : يتخذه سبب وصل عند الله وأدعية الرسول ، وكان يدعو للمصدقين بالخير والبركة ، ويستغفر لهم كقوله : " اللهم صل على آل أبي أوفى " ، وقال تعالى : ( وصل عليهم ) ، والظاهر عطف ( وصلوات ) على ( قربات ) . قال ابن عطية : ويحتمل أن يكون ( وصلوات الرسول ) عطفا على ( ما ينفق ) ، أي : ويتخذ بالأعمال الصالحة صلوات الرسول قربة . قال ابن عباس : صلوات الرسول هي استغفاره لهم . وقال قتادة : أدعيته بالخير والبركة ، سماها صلوات جريا على الحقيقة اللغوية ، أو لأن الدعاء فيها ، وحين جاء ابن أبي أوفى بصدقته قال : " آجرك الله فيما أعطيت ، وجعله لك طهورا " والضمير في ( أنها ) قيل : عائد على الصلوات . وقيل : عائد على النفقات . وتحرير هذا القول أنه عائد على ما على معناها ، والمعنى : قربة لهم عند الله ، وهذه شهادة من الله للمتصدق بصحة ما اعتقد من كون نفقته قربات وصلوات ، وتصديق رجائه على طريق الاستئناف مع حرف التنبيه ، وهو " ألا " ، وحرف التوكيد وهو " إن " . قال الزمخشري : وما في السين من تحقيق الوعد ، وما أدل هذا الكلام على رضا الله تعالى عن المتصدقين ، وأن الصدقة منه تعالى بمكان إذا خلصت النية من صاحبها . انتهى . وتقدم الكلام معه في دعواه أن السين تفيد تحقيق الوعد . وقرأ ورش : ( قربة ) بضم الراء ، وباقي السبعة بالسكون ، وهما لغتان . ولم يختلفوا في ( قربات ) أنه بالضم ، فإن كان جمع قربة فجاء الضم على الأصل في الوضع ، وإن كان جمع قربة بالسكون فجاء الضم اتباعا لما قبله ، كما قالوا : ظلمات في جمع ظلمة .

التالي السابق


الخدمات العلمية