الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت وجعلوا لله شركاء قل سموهم أم تنبئونه بما لا يعلم في الأرض أم بظاهر من القول بل زين للذين كفروا مكرهم وصدوا عن السبيل ومن يضلل الله فما له من هاد لهم عذاب في الحياة الدنيا ولعذاب الآخرة أشق وما لهم من الله من واق )

[ ص: 394 ] " من " موصولة صلتها ما بعدها ، وهي مبتدأ والخبر محذوف تقديره : كمن ييئس كذلك من شركائهم التي لا تضر ولا تنفع ، كما حذف من قوله : ( أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه ) تقديره : كالقاسي قلبه الذي هو في ظلمة . ودل عليه قوله تعالى : ( وجعلوا لله شركاء ) كما دل على القاسي ( فويل للقاسية قلوبهم ) ويحسن حذف هذا الخبر كون المبتدأ يكون مقابله الخبر المحذوف ، وقد جاء مثبتا كثيرا كقوله تعالى : ( أفمن يخلق كمن لا يخلق ) ، ( أفمن يعلم ) ، ثم قال : ( كمن هو أعمى ) . والظاهر أن قوله تعالى : ( وجعلوا لله شركاء ) استئناف إخبار عن سوء صنيعهم وكونهم أشركوا مع الله ما لا يصلح للألوهية . نعى عليهم هذا الفعل القبيح ، هذا والباري تعالى هو المحيط بأحوال النفوس جليها وخفيها . ونبه على بعض حالاتها وهو الكسب ، ليتفكر الإنسان فيما يكسب من خير وشر ، وما يترتب على الكسب في الجزاء ، وعبر بقائم عن الإحاطة والمراقبة التي لا يغفل عنها . وقال الزمخشري : ويجوز أن يقدر ما يقع خبرا للمبتدأ ويعطف عليه ، ( وجعلوا لله ) أي : وجعلوا وتمثيله ( أفمن هو ) بهذه الصفة لم يوحدوه وجعلوا له شركاء ، وهو الله الذي يستحق العبادة وحده ، انتهى . وفي هذا التوجيه إقامة الظاهر مقام المضمر في قوله : ( وجعلوا لله ) أي : وجعلوا له ، وفيه حذف الخبر عن المقابل ، وأكثر ما جاء هذا الخبر مقابلا . وفي تفسير أبي عبد الله الرازي قال : الشديد صاحب العقد : الواو في قوله تعالى : ( وجعلوا ) واو الحال ، والتقدير : أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت موجود ، والحال أنهم جعلوا له شركاء ، ثم أقيم الظاهر وهو لله مقام المضمر تقديرا لألوهيته وتصريحا بها ، كما تقول : معطي الناس ومغنيهم موجود ، ويحرم مثلي ؟ انتهى .

وقال ابن عطية : أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت أحق بالعبادة أم الجمادات التي لا تضر ولا تنفع ؟ هذا تأويل . ويظهر أن القول مرتبط بقوله : ( وجعلوا لله شركاء ) كأن المعنى : أفمن له القدرة والوحدانية ويجعل له شريك ، هل ينتقم ويعاقب أم لا ؟ وأبعد من ذهب إلى أن قوله : ( أفمن هو قائم ) المراد به الملائكة الموكلون ببني آدم ، حكاه القرطبي عن الضحاك . والخبر أيضا محذوف تقديره : كغيره من المخلوقين . وأبعد أيضا من ذهب إلى أن قوله : ( وجعلوا ) معطوفا على ( استهزئ ) أي : استهزءوا وجعلوا ، ثم أمره تعالى أن يقول لهم : ( سموهم ) أي : اذكروهم بأسمائهم ، والمعنى : أنهم ليسوا ممن يذكر ويسمى ، إنما يذكر ويسمى من هو ينفع ويضر ، وهذا مثل من يذكر لك أن شخصا يوقر ويعظم وهو عندك لا يستحق ذلك فتقول لذاكره : سمه حتى أبين لك زيفه وأنه ليس كما تذكر . وقريب من هذا قول من قال في قوله : ( قل سموهم ) ، إنما يقال ذلك في الشيء المستحقر الذي يبلغ في الحقارة إلى أن لا يذكر ولا يوضع له اسم ، فعند ذلك يقال له : سمه إن شئت ؛ أي : هو أخس من أن يذكر ويسمى . ولكن إن شئت أن تضع له اسما فافعل ، فكأنه قال : سموهم بالآلهة على جهة التهديد . والمعنى : سواء سميتموهم بهذا الاسم أم لم تسموهم به فإنها في الحقارة بحيث لا يستحق أن يلفت العاقل إليها . وقيل : سموهم إذا صنعوا وأماتوا وأحيوا لتصح الشركة . وقيل : طالبوهم بالحجة على أنها آلهة . وقيل : صفوهم وانظروا هل يستحقون الإلهية ؟ وقال الزمخشري : جعلتم له شركاء فسموهم له من هم ، وبينوهم بأسمائهم ؟ وقيل : هذا تهديد كما تقول لمن تهدده على شرب الخمر : سم الخمر بعد هذا ! و ( أم ) في قوله : ( أم تنبئونه ) منقطعة ، وهو استفهام توبيخ . قال الزمخشري : بل أتنبئونه بشركاء لا [ ص: 395 ] يعلمهم في الأرض وهو العالم بما في السماوات والأرض ، فإذا لم يعلمهم علم أنهم ليسوا بشيء يتعلق به العلم ، والمراد نفي أن يكون له شركاء ، ونحوه : ( قل أتنبئون الله بما لا يعلم في السماوات ولا في الأرض ) انتهى . فجعل الفاعل في قوله : ( بما لا يعلم ) عائدا على الله . والعائد على ( بما ) محذوف أي : بما لا يعلمه الله . وكنا قد خرجنا تلك الآية على الفاعل في قوله : ( بما لا يعلم ) عائد على ( ما ) وقررنا ذلك هناك ، وهو يتقرر هنا أيضا ؛ أي : أتنبئون الله بشركة الأصنام التي لا تتصف بعلم البتة . وذكر نفي العلم في الأرض ؛ إذ الأرض هي مقر تلك الأصنام ، فإذا انتفى علمها في المقر التي هي فيه ، فانتفاؤه في السماوات أحرى . وقرأ الحسن : ( تنبئونه من أنبأ ) وقيل : المراد تقدرون أن تعلموه بأمر تعلمونه أنتم وهو لا يعلمه ، وخص الأرض بنفي الشريك بأنه لم يكن له شريك البتة ؛ لأنهم ادعوا أن لله شريكا في الأرض لا في غيرها . والظاهر في ( أم ) في قوله : ( أم بظاهر ) أنها منقطعة أيضا أي : بل أتسمونهم شركاء بظاهر من القول من غير أن يكون لذلك حقيقة ؛ أي : إنكم تنطقون بتلك الأسماء وتسمونها آلهة ولا حقيقة لها ، إذ أنتم لا تعلمون أنها لا تتصف بشيء من أوصاف الألوهية كقوله : ( ما تعبدون من دونه إلا أسماء سميتموها ) وقال مجاهد : أم بظاهر من القول . وقال قتادة : بباطل من القول لا باطن له في الحقيقة . ومنه قول الشاعر :


أعيرتنا ألبانها ولحومها وذلك عار يا ابن ريطة ظاهر

أي : باطل . وقيل : ( أم ) متصلة ، والتقدير : أم تنبئونه بظاهر من القول لا حقيقة له كقوله : ( ذلك قولهم بأفواههم ) ثم قال بعد هذا الحجاج على وجه التحقير لما هم عليه : ( بل زين للذين كفروا مكرهم ) .

وقال الواحدي : لما ذكر الدلائل على فساد قولهم وقال : دع ذلك الدليل ؛ لأنهم لا ينتفعون به ، لأنه زين لهم مكرهم . وقرأ مجاهد : ( بل زين ) على البناء للفاعل ( مكرهم ) بالنصب . والجمهور : ( زين ) على البناء للمفعول ( مكرهم ) بالرفع أي : كيدهم للإسلام بشركهم ، وما قصدوا بأقوالهم وأفعالهم من مناقضة الشرع . وقرأ الكوفيون : ( وصدوا ) هنا ، وفي ( غافر ) بضم الصاد مبنيا للمفعول ، فالفعل متعد . وقرأ باقي السبعة : بفتحها ، فاحتمل التعدي واللزوم ؛ أي : صدوا أنفسهم أو غيرهم . وقرأ ابن وثاب : ( وصدوا ) بكسر الصاد ، وهي كقراءة ( ردت إلينا ) بكسر الراء . وفي اللوامح الكسائي لابن يعمر ( وصدوا ) بالكسر لغة ، وفي الضم أجراه بحرف الجر نحو قبل ، فأما في المؤمن فبالكسر لابن وثاب ، انتهى . وقرأ ابن أبي إسحاق : وصد بالتنوين عطفا على ( مكرهم ) . قال الزمخشري : ( ومن يضلل الله ) ومن يخذله يعلمه أنه لا يهتدي . ( فما له من هاد ) فما له من واحد يقدر على هدايته ، انتهى . وهو على طريقة الاعتزال . والعذاب في الدنيا هو ما يصيبهم بسبب كفرهم من القتل والأسر والنهب والذلة والحروب والبلايا في أجسامهم ، وغير ذلك مما يمتحن به الكفار ، وكان عذاب الآخرة أشق على النفوس ؛ لأنه إحراق بالنار دائما ( كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودا غيرها ) ( ومن واق ) من ساتر يحفظهم من العذاب ويحميهم ، ولما ذكر ما أعد للكفار في الآخرة ذكر ما أعد للمؤمنين فقال :

( مثل الجنة التي وعد المتقون تجري من تحتها الأنهار أكلها دائم وظلها تلك عقبى الذين اتقوا وعقبى الكافرين النار )

( مثل الجنة ) أي : صفتها التي هي في غرابة المثل ، وارتفع " مثل " على الابتداء في مذهب سيبويه ، والخبر محذوف ؛ أي : فيما قصصنا عليكم مثل الجنة . و ( تجري من تحتها الأنهار ) تفسير لذلك المثل . تقول : مثلت الشيء إذا وصفته وقربته للفهم ، وليس هنا ضرب مثل لها فهو كقوله تعالى : ( وله المثل الأعلى ) أي : الصفة العليا ، وأنكر أبو علي أن يكون ( مثل ) بمعنى صفة ، قال : إنما معناه التنبيه . وقال الفراء : أي صفتها أنها تجري من تحتها الأنهار ، ونحو هذا موجود في كلام العرب ، انتهى . ولا يمكن حذف أنها ، وإنما فسر المعنى ولم يذكر [ ص: 396 ] الإعراب . وتأول قوم على القرآن ( مثل مقحم ) ، وأن التقدير : الجنة التي وعد المتقون تجري ، وإقحام الأسماء لا يجوز . وحكوا عن الفراء أن العرب تقحم كثيرا المثل والمثل ، وخرج على ذلك : ( ليس كمثله شيء ) أي : كهو شيء . فقال غيرهما : الخبر : تجري ، كما تقول : صفة زيد أسمر ، وهذا أيضا لا يصح أن يكون تجري خبرا عن الصفة ، وإنما يتأول تجري على إسقاط " أن " ورفع الفعل ، والتقدير : أن تجري - خبر ثان - الأنهار . وقال الزجاج : معناه مثل الجنة جنة تجري ، على حذف الموصوف تمثيلا لما غاب عنا بما نشاهد ، انتهى .

وقال أبو علي : لا يصح ما قال الزجاج ، لا على معنى الصفة ، ولا على معنى الشبه ؛ لأن الجنة التي قدرها جنة ، ولا تكون الصفة ، ولأن الشبه عبارة عن المماثلة التي بين المتماثلين وهو حدث ، والجنة جنة فلا تكون المماثلة . وقرأ علي وابن مسعود : ( مثال الجنة ) على الجمع أي : صفاتها . وفي اللوامح على السلمي أمثال الجنة : جمع ومعناه : صفات الجنة ؛ وذلك لأنها صفات مختلفة ، فلذلك جمع نحو الحلقوم والإسعال . والأكل ما يؤكل فيها ، ومعنى دوامه : أنه لا ينقطع أبدا ، كما قال تعالى : ( لا مقطوعة ولا ممنوعة ) وقال إبراهيم التيمي : أي لذاته دائمة لا تزاد بجوع ولا تمل من شبع . وظلها أي : دائم البقاء والراحة ، لا تنسخه شمس ، ولا يميل لبرد كما في الدنيا ؛ أي : تلك الجنة عاقبة الذين اتقوا ؛ أي : اجتنبوا الشرك .

التالي السابق


الخدمات العلمية