الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 246 ] ( ولما جاءت رسلنا لوطا سيء بهم وضاق بهم ذرعا وقال هذا يوم عصيب وجاءه قومه يهرعون إليه ومن قبل كانوا يعملون السيئات قال ياقوم هؤلاء بناتي هن أطهر لكم فاتقوا الله ولا تخزوني في ضيفي أليس منكم رجل رشيد قالوا لقد علمت ما لنا في بناتك من حق وإنك لتعلم ما نريد قال لو أن لي بكم قوة أو آوي إلى ركن شديد ) خرجت الملائكة من قرية إبراهيم إلى قرية لوط وبينهما قيل : ثمانية أميال . وقيل : أربعة فراسخ ، فأتوها عشاء . وقيل : نصف النهار ، ووجدوا لوطا في حرث له . وقيل : وجدوا ابنته تستقي ماء في نهر سدوم ، وهي أكبر حواضر قوم لوط ، فسألوها الدلالة على من يضيفهم ، ورأت هيئتهم فخافت عليهم من قوم لوط وقالت لهم : مكانكم ، وذهبت إلى أبيها فأخبرته ، فخرج إليهم فقالوا : إنا نريد أن تضيفنا الليلة فقال لهم : أو ما سمعتم بعمل هؤلاء القوم ؟ فقالوا : وما عملهم ؟ فقال : أشهد بالله أنهم شر قوم في الأرض ، وقد كان الله قال للملائكة : لا تعذبوهم حتى يشهد عليهم لوط أربع شهادات ، فلما قال هذه قال جبريل : هذه واحدة ، وتردد القول منهم حتى كرر لوط الشهادة أربع مرات ، ثم دخل لوط المدينة فحينئذ سيء بهم ، أي : لحقه سوء بسببهم ، وضاق ذرعه بهم ، وقال : ( هذا يوم عصيب ) ، أي : شديد ، لما كان يتخوفه من تعدي قومه على أضيافه .

( وجاءه قومه يهرعون إليه ) ، لما جاء لوط بضيفه لم يعلم بذلك أحد إلا أهل بيته ، فخرجت امرأته حتى أتت مجالس قومها فقالت : إن لوطا قد أضاف الليلة فتية ما رئي مثلهم جمالا وكذا وكذا ، فحينئذ جاءوا يهرعون ، أي : يسرعون ، كما يدفعون دفعا فعل الطامع الخائف فوت ما يطلبه . وقرأ الجمهور : ( يهرعون ) مبنيا للمفعول من أهرع ، أي : يهرعهم الطمع . وقرأت فرقة : ( يهرعون ) بفتح الياء من هرع . وقال مهلهل :


فجاءوا يهرعون وهم أسارى يقودهم على رغم الأنوف

( ومن قبل كانوا يعملون السيئات ) ، أي : كان ذلك ديدنهم وعادتهم ، أصروا على ذلك ومرنوا عليه ، فليس ذلك بأول إنشاء هذه المعصية ، جاءوا يهرعون لا يكفهم حياء لضراوتهم عليها ، والتقدير في ( ومن قبل ) ، أي : من قبل مجيئهم إلى هؤلاء الأضياف وطلبهم إياهم .

وقيل : ومن قبل بعث لوط رسولا إليهم . وجمعت السيئات وإن كان المراد بها معصية إتيان الذكور ، إما باعتبار فاعليها أو باعتبار تكررها . وقيل : كانت سيئات كثيرة باختلاف أنواعها ، منها إتيان الذكور ، وإتيان النساء في غير المأتي ، وحذف الحصا والحيق في المجالس والأسواق ، والمكاء والصفير واللعب بالحمام والقمار ، والاستهزاء بالناس في الطرقات ، ووضع درهم على الأرض وهم بعيدون منه فمن أخذه صاحوا عليه وخجلوه ، وإن أخذه صبي تابعوه وراودوه . ( هؤلاء بناتي ) : الأحسن أن تكون الإضافة مجازية ، أي : بنات قومي ، أي : البنات أطهر لكم ، إذ النبي يتنزل منزلة الأب لقومه . وفي قراءة ابن مسعود : ( النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجه أمهاتهم وهو أب لهم ) ويدل عليه أنه فيما قيل : لم يكن له إلا بنتان ، وهذا بلفظ الجمع .

وأيضا فلا يمكن أن يزوج ابنتيه من جميع قومه . وقيل : أشار إلى بنات نفسه وندبهم إلى النكاح ، إذ كان من سنتهم تزويج المؤمنة بالكافر . أو على أن في ضمن كلامه أن يؤمنوا . وقيل : كان لهم سيدان مطاعان فأراد أن يزوجهما ابنتيه زغورا وزيتا . وقيل : كن ثلاثا .

ومعنى أطهر : أنظف فعلا . وقيل : أحل وأطهر بيتا ليس أفعل التفضيل ، إذ لا طهارة في إتيان الذكور . وقرأ الجمهور : ( أطهر ) بالرفع [ ص: 247 ] والأحسن في الإعراب أن يكون جملتان كل منهما مبتدأ وخبر . وجوز في ( بناتي ) أن يكون بدلا أو عطف بيان ، و ( هن ) فصل و ( أطهر ) الخبر . وقرأ الحسن ، وزيد بن علي ، وعيسى بن عمر ، وسعيد بن جبير ، ومحمد بن مروان السدي : ( أطهر ) بالنصب .

وقال سيبويه : هو لحن . وقال أبو عمرو بن العلاء : احتبى فيه ابن مروان في لحنه يعني : تربع . ورويت هذه القراءة عن مروان بن الحكم ، وخرجت هذه القراءة على أن نصب أطهر على الحال . فقيل : ( هؤلاء ) : مبتدأ ، و ( بناتي هن ) : مبتدأ وخبر في موضع خبر ( هؤلاء ) ، وروي هذا عن المبرد . وقيل : ( هؤلاء بناتي ) : مبتدأ وخبر ، و ( هن ) : مبتدأ و ( لكم ) : خبره ، والعامل قيل : المضمر . وقيل : لكم بما فيه من معنى الاستقرار . وقيل : ( هؤلاء بناتي ) : مبتدأ وخبر و ( هن ) : فصل ، و ( أطهر ) : حال . ورد بأن الفصل لا يقع إلا بين جزأي الجملة ، ولا يقع بين الحال وذي الحال .

وقد أجاز ذلك بعضهم وادعى السماع فيه عن العرب ، لكنه قليل . ثم أمرهم بتقوى الله في أن يؤثروا البنات على الأضياف . و ( لا تخزوني ) : يحتمل أن يكون من الخزي وهو : الفضيحة ، أو من الخزاية وهو : الاستحياء ، لأنه إذا خزي ضيف الرجل أو جاره فقد خزي هو ، وذلك من عراقة الكرم وأصل المروءة ، أليس منكم رجل يهتدي إلى سبيل الحق ، وفعل الجميل ، والكف عن السوء ؟ وفي ذلك توبيخ عظيم لهم ، حيث لم يكن منهم رشيد البتة .

قال ابن عباس : رشيد : مؤمن . وقال أبو مالك : ناه عن المنكر . ورشيد : ذو رشد ، أو مرشد كالحكيم بمعنى : المحكم ، والظاهر أن معنى ( من حق ) : من نصيب ، ولا من غرض ولا من شهوة ، قالوا له ذلك على وجه الخلاعة . وقيل : من حق لأنك لا ترى منا كحتنا ، لأنهم كانوا خطبوا بناته فردهم ، وكانت سنتهم أن من رد في خطبة امرأة لم تحل له أبدا .

وقيل : لما اتخذوا إتيان الذكران مذهبا كان عندهم أنه هو الحق ، وإن نكاح الإناث من الباطل . وقيل : لأن عادتهم كانت أن لا يتزوج الرجل منهم إلا واحدة ، وكانوا كلهم متزوجين . ( وإنك لتعلم ما نريد ) يعني : من إتيان الذكور ، ومالهم فيه من الشهوة . قال : ( لو أن لي بكم قوة ) : قال ذلك على سبيل التفجع . وجواب لو محذوف كما حذف في : ( ولو أن قرآنا سيرت به الجبال ) وتقديره : لفعلت بكم وصنعت ، والمعنى في ( إلى ركن شديد ) من يستند إليه ويمتنع به من عشيرته ، شبه الذي يمتنع به بالركن من الجبل في شدته ومنعته ، وكأنه امتنع عليه أن ينتصر ويمتنع بنفسه أو بغيره مما يمكن أن يستند إليه .

وقال الحوفي وأبو البقاء : ( أو آوي ) : عطف على المعنى تقديره : أو أني آوي . والظاهر أن أو عطف جملة فعلية ، على جملة فعلية إن قدرت أني في موضع رفع على الفاعلية على ما ذهب إليه المبرد ، أي : لو ثبت أن لي بكم قوة أو آوي . ويكون المضارع المقدر وآوي هذا وقعا موقع الماضي ، ولو التي هي حرف لما كان سيقع لوقوع غيره نقلت المضارع إلى الماضي ، وإن قدرت أن وما بعدها جملة اسمية على مذهب سيبويه ، فهي عطف عليها من حيث أن لو تأتي بعدها الجملة المقدرة اسمية ، إذا كان الذي ينسبك إليها أن ومعمولاها .

وقال أبو البقاء : ويجوز أن يكون ( أو آوي ) : مستأنفا ، انتهى . ويجوز على رأي الكوفيين أن تكون أو بمعنى : بل ، ويكون قد أضرب عن الجملة السابقة وقال : بل آوي في حالي معكم إلى ركن شديد ، وكنى به عن جناب الله تعالى .

وقرأ شيبة وأبو جعفر : ( أو آوي ) بنصب الياء بإضمار أن بعد أو ، فتتقدر بالمصدر عطفا على قوله : ( قوة ) . ونظيره من النصب بإضمار ( أن ) بعد ( أو ) قول الشاعر :


ولولا رجال من رزام أعزة     و آل سبيع أو يسوؤك علقما



أي : أو ومساءتك علقما .

التالي السابق


الخدمات العلمية