الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( وتولى عنهم وقال يا أسفى على يوسف وابيضت عيناه من الحزن فهو كظيم قالوا تالله تفتأ تذكر يوسف حتى تكون حرضا أو تكون من الهالكين قال إنما أشكو بثي وحزني إلى الله وأعلم من الله ما لا تعلمون يا بني اذهبوا فتحسسوا من يوسف وأخيه ولا تيأسوا من روح الله إنه لا ييئس من روح الله إلا القوم الكافرون )

وتولى عنهم ؛ أي : أعرض عنهم كراهة لما جاءوا به ، وأنه ساء ظنه بهم ، ولم يصدق قولهم ، وجعل يتفجع ويتأسف ، قال الحسن : خصت هذه الأمة بالاسترجاع ، ألا ترى إلى قول يعقوب : ( ياأسفى ) ونادى الأسف على سبيل المجاز على معنى : هذا زمانك فاحضر ، والظاهر أنه يضاف إلى ياء المتكلم قلبت ألفا ، كما قالوا : في يا غلامي يا غلاما ، وقيل : هو على الندبة ، وحذف الهاء التي للسكت . قال الزمخشري : والتجانس بين لفظتي " الأسف ، و يوسف " مما يقع مطبوعا غير مستعمل فيملح ويبدع ، ونحوه : ( اثاقلتم إلى الأرض أرضيتم ) ، ( وهم ينهون عنه وينأون عنه ) ، ( يحسبون أنهم يحسنون صنعا ) ، ( من سبأ بنبأ ) انتهى . ويسمى هذا تجنيس التصريف ، وهو أن تنفرد كل كلمة من الكلمتين عن الأخرى بحرف .

وذكر يعقوب ما دهاه من أمر بنيامين والقائل ( فلن أبرح الأرض ) وفقدانه يوسف ، فتأسف عليه وحده ، ولم يتأسف عليهما ؛ لأنه هو الذي لا يعلم أحي هو أم ميت ؟ بخلاف إخوته ، ولأنه كان أصل الرزايا عنده ، إذ ترتبت عليه ، وكان أحب أولاده إليه ، وكان دائما يذكره ولا ينساه ، وابيضاض عينيه من توالي العبرة ، فينقلب سواد العين إلى بياض كدر ، والظاهر أنه كان عمي لقوله : ( فارتد بصيرا ) ، وقال : ( وما يستوي الأعمى والبصير ) فقابل البصير بالأعمى ، وقيل : كان يدرك إدراكا ضعيفا ، وعلل الابيضاض بالحزن ، وإنما هو من البكاء المتوالي ، وهو ثمرة الحزن ، فعلل بالأصل الذي نشأ منه البكاء وهو الحزن .

وقرأ ابن عباس ومجاهد : ( من الحزن ) بفتح الحاء والزاي ، وقتادة : بضمها ، والجمهور : بضم الحاء وإسكان الزاي . والكظيم إما للمبالغة وهو الظاهر اللائق بحال يعقوب ؛ أي : شديد الكظم كما قال : ( والكاظمين الغيظ ) ولم يشك يعقوب إلى أحد ، وإنما كان يكتمه في نفسه ، ويمسك همه في صدره ، فكان يكظمه أي : يرده إلى قلبه ولا يرسله بالشكوى والغضب والضجر ، وإما أن يكون فعيلا بمعنى مفعول ، وهو لا ينقاس ، وقاله قوم كما قال في يونس : ( إذ نادى وهو مكظوم ) قال ابن عطية : وإنما يتجه على تقدير أنه مليء بحزنه ، فكأنه كظم حزنه في صدره ، وفسر ناس الكظيم بالمكروب وبالمكمود ، وروي : أنه ما جفت عيناه من فراق يوسف إلى لقائه ثمانين عاما ، وأن وجده عليه وجد سبعين ثكلى ، وأجره [ ص: 339 ] أجر مائة شهيد . وقال الزمخشري : ( فهو كظيم ) فهو مملوء من الغيظ على أولاده ، ولا يظهر ما يسوءهم ، انتهى .

وقد ذكرنا أن فعيلا بمعنى مفعول لا ينقاس ، وجواب القسم ( تفتأ ) حذفت منه ، لا لأن حذفها جائز ، والمعنى : لا تزال . وقال مجاهد : لا تفتر من حبه ، كأنه جعل الفتوء والفتور أخوين ، والحرض الذي قدرنا موته ، قال مجاهد : ما دون الموت . وقال قتادة : البالي الهرم ، وقال نحوه الضحاك والحسن . وقال ابن إسحاق : الفاسد الذي لا عقل له . وكأنهم قالوا له ذلك على جهة تفنيد الرأي أي : لا تزال تذكر يوسف إلى حال القرب من الهلاك ، أو إلى أن تهلك فقال هو : ( إنما أشكو بثي وحزني إلى الله ) أي : لا أشكو إلى أحد منكم ولا غيركم . وقال أبو عبيدة وغيره : البث أشد الحزن ، سمي بذلك ؛ لأنه من صعوبته لا يطيق حمله ، فيبثه أي ينشره . وقرأ الحسن وعيسى : ( وحزني ) بفتحتين ، وقرأ قتادة : بضمتين .

( وأعلم من الله ما لا تعلمون ) أي : أعلم من صنعه ورحمته وحسن ظني به أنه يأتي بالفرج من حيث لا أحتسب ، قاله الزمخشري . وقال ابن عطية : ويحتمل أنه أشار إلى الرؤيا المنتظرة ، أو إلى ما وقع في نفسه من قول ملك مصر إني أدعو له برؤيته ابنه قبل الموت ، وقيل : رأى ملك الموت في منامه فسأله : هل قبضت روح يوسف ؟ فقال : لا ، هو حي فاطلبه .

( اذهبوا ) أمر بالذهاب إلى الأرض التي جاءوا منها وتركوا بها أخويهم بنيامين والمقيم بها ، وأمرهم بالتحسس ؛ وهو الاستقصاء والطلب بالحواس ، ويستعمل في الخير والشر ، وقرئ بالجيم ، كالذي في الحجرات : ( ولا تجسسوا ) والمعنى : فتحسسوا نبأ من أمر يوسف وأخيه ، وإنما خصهما لأن الذي أقام وقال : فلن أبرح الأرض ، إنما أقام مختارا . وقرأ الجمهور : ( تيأسوا ) ، وفرقة : ( تأيسوا ) ، وقرأ الأعرج : ( تئسوا ) بكسر التاء . و ( روح الله ) رحمته وفرجه وتنفيسه ، وقرأ عمر بن عبد العزيز والحسن وقتادة : ( من روح الله ) بضم الراء . قال ابن عطية : وكان معنى هذه القراءة : لا تيأسوا من حي معه روح الله الذي وهبه ، فإن من بقي روحه يرجى ، ومن هذا قول الشاعر :


وفي غير من قد وارت الأرض فاطمع

ومن هذا قول عبيد بن الأبرص :

وكل ذي غيبة يئوب وغائب الموت لا يئوب وقال الزمخشري : ( من روح الله ) بالضم ؛ أي : من رحمته التي تحيا بها العباد ، انتهى . وقرأ أبي : ( من رحمة الله ) من صفات الكافر إذ فيه التكذيب بالربوبية أو الجهل بصفات الله .

التالي السابق


الخدمات العلمية