الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            والخارجون عن قبضة الإمام ، أصناف أربعة ; أحدها ، قوم امتنعوا من طاعته ، وخرجوا عن قبضته بغير تأويل ، فهؤلاء قطاع طريق ، ساعون في الأرض بالفساد ، يأتي حكمهم في باب مفرد . الثاني : قوم لهم تأويل ، إلا أنهم نفر يسير ، لا منعة لهم ، كالواحد والاثنين والعشرة ونحوهم ، فهؤلاء قطاع طريق ، في قول أكثر أصحابنا ، وهو مذهب الشافعي ; لأن ابن ملجم لما جرح عليا ، قال للحسن : إن برئت رأيت رأيي ، وإن مت فلا تمثلوا به . فلم يثبت لفعله حكم البغاة . ولأننا لو أثبتنا للعدد اليسير حكم البغاة ، في سقوط ضمان ما أتلفوه ، أفضى إلى إتلاف أموال الناس .

                                                                                                                                            وقال أبو بكر : لا فرق بين الكثير والقليل ، وحكمهم حكم البغاة إذا خرجوا عن قبضة الإمام . الثالث : الخوارج الذين يكفرون بالذنب ، ويكفرون عثمان وعليا وطلحة والزبير ، وكثيرا من الصحابة ، ويستحلون دماء المسلمين ، وأموالهم ، إلا من خرج معهم ، فظاهر قول الفقهاء من أصحابنا المتأخرين ، أنهم بغاة ، [ ص: 4 ] حكمهم حكمهم . وهذا قول أبي حنيفة ، والشافعي ، وجمهور الفقهاء ، وكثير من أهل الحديث . ومالك يرى استتابتهم ، فإن تابوا ، وإلا قتلوا على إفسادهم ، لا على كفرهم .

                                                                                                                                            وذهبت طائفة من أهل الحديث إلى أنهم كفار مرتدون ، حكمهم حكم المرتدين ، وتباح دماؤهم وأموالهم ، فإن تحيزوا في مكان ، وكانت لهم منعة وشوكة ، صاروا أهل حرب كسائر الكفار ، وإن كانوا في قبضة الإمام ، استتابهم ، كاستتابة المرتدين ، فإن تابوا ، وإلا ، ضربت أعناقهم ، وكانت أموالهم فيئا ، لا يرثهم ورثتهم المسلمون ; لما روى أبو سعيد ، قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : { يخرج قوم تحقرون صلاتكم مع صلاتهم ، وصيامكم مع صيامهم ، وأعمالكم مع أعمالهم ، يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم ، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية ، ينظر في النصل فلا يرى شيئا ، وينظر في القدح فلا يرى شيئا ، وينظر في الريش فلا يرى شيئا ، ويتمارى في الفوق } رواه مالك ، في " موطئه " ، والبخاري في " صحيحه " . وهو حديث صحيح ، ثابت الإسناد وفي لفظ قال : { يخرج قوم في آخر الزمان ، أحداث الأسنان ، سفهاء الأحلام ، يقولون من خير قول البرية ، يقرءون القرآن لا يجاوز تراقيهم ، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية ، فأينما لقيتهم فاقتلهم ; فإن قتلهم أجر لمن قتلهم يوم القيامة } . رواه البخاري . وروي معناه من وجوه .

                                                                                                                                            يقول : فكما خرج هذا السهم نقيا خاليا من الدم والفرث ، لم يتعلق منها بشيء ، كذلك خروج هؤلاء من الدين ، يعني الخوارج . وعن أبي أمامة ، { أنه رأى رءوسا منصوبة على درج مسجد دمشق فقال : كلاب النار ، شر قتلى تحت أديم السماء ، خير قتلى من قتلوه . ثم قرأ : { يوم تبيض وجوه وتسود وجوه } إلى آخر الآية . فقيل له : أنت سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال : لو لم أسمعه إلا مرة ، أو مرتين ، أو ثلاثا ، أو أربعا حتى عد سبعا ما حدثتكموه } . قال الترمذي : هذا حديث حسن . ورواه ابن ماجه ، عن سهل ، عن ابن عيينة ، عن أبي غالب ، أنه سمع { أبا أمامة يقول : شر قتلى قتلوا تحت أديم السماء ، وخير قتلى من قتلوا ، كلاب أهل النار ، كلاب أهل النار ، كلاب أهل النار ، قد كان هؤلاء مسلمين فصاروا كفارا . قلت : يا أبا أمامة ، هذا شيء تقوله ؟ قال : بل سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم } . وعن علي رضي الله عنه في قوله تعالى : { قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا } . قال : " هم أهل النهروان " .

                                                                                                                                            وعن أبي سعيد ، في حديث آخر ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { هم شر الخلق والخليقة ، لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد . وقال : لا يجاوز إيمانهم حناجرهم } . وأكثر الفقهاء على أنهم بغاة ، ولا يرون تكفيرهم ، قال ابن المنذر : لا أعلم أحدا وافق أهل الحديث على تكفيرهم وجعلهم كالمرتدين . وقال ابن عبد البر ، في الحديث الذي رويناه : قوله : { يتمارى في الفوق } . يدل على أنه لم يكفرهم ; لأنهم علقوا من الإسلام بشيء ، بحيث يشك في خروجهم منه . وروي عن علي أنه لما قاتل أهل النهر قال لأصحابه : لا تبدءوهم بالقتال . وبعث إليهم : أقيدونا بعبد الله بن خباب . قالوا : كلنا قتله . فحينئذ استحل قتالهم ; لإقرارهم على أنفسهم بما يوجب قتلهم .

                                                                                                                                            وذكر ابن عبد البر ، عن علي ، رضي الله عنه أنه سئل عن أهل النهر ، أكفار هم ؟ قال : من الكفر فروا . قيل : فمنافقون ؟ قال : إن المنافقين لا يذكرون الله إلا قليلا . قيل : فما هم ؟ قال : هم قوم أصابتهم فتنة ، فعموا فيها وصموا ، وبغوا علينا ، وقاتلونا فقاتلناهم . ولما جرحه ابن ملجم ، قال للحسن : أحسنوا إساره ، فإن عشت فأنا ولي دمي ، وإن مت فضربة كضربتي . وهذا رأي عمر بن عبد العزيز فيهم ، وكثير من العلماء . [ ص: 5 ]

                                                                                                                                            والصحيح ، إن شاء الله ، أن الخوارج يجوز قتلهم ابتداء ، والإجهاز على جريحهم ; لأمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتلهم ووعده بالثواب من قتلهم ، فإن عليا ، رضي الله عنه قال : لولا أن ينظروا ، لحدثتكم بما وعد الله الذين يقتلونهم على لسان محمد صلى الله عليه وسلم ; ولأن بدعتهم ، وسوء فعلهم ، يقتضي حل دمائهم ; بدليل ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم من عظم ذنبهم ، وأنهم شر الخلق والخليقة ، وأنهم يمرقون من الدين ، وأنهم كلاب النار ، وحثه على قتلهم ، وإخباره بأنه لو أدركهم لقتلهم قتل عاد ، فلا يجوز إلحاقهم بمن أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالكف عنهم ، وتورع كثير من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قتالهم ، ولا بدعة فيهم .

                                                                                                                                            الصنف الرابع : قوم من أهل الحق ، يخرجون عن قبضة الإمام ، ويرومون خلعه لتأويل سائغ ، وفيهم منعة يحتاج في كفهم إلى جمع الجيش ، فهؤلاء البغاة ، الذين نذكر في هذا الباب حكمهم ، وواجب على الناس معونة إمامهم ، في قتال البغاة ; لما ذكرنا في أول الباب ; ولأنهم لو تركوا معونته ، لقهره أهل البغي ، وظهر الفساد في الأرض .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية