الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
          معلومات الكتاب

          الإحكام في أصول الأحكام

          الآمدي - علي بن محمد الآمدي

          وأما المعقول ; فمن أربعة أوجه :

          الأول : أن إجماعهم ربما كان عن اجتهاد وظن ، ولا حجر على المجتهد إذا تغير اجتهاده ، وإلا كان الاجتهاد مانعا من الاجتهاد وهو ممتنع ، وذلك لأن العادة جارية بأن الرأي والنظر عند المراجعة وتكرر النظر يكون أوضح وأصح .

          ويدل عليه قوله تعالى : ( وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا بادي الرأي ) ، جعلوا بادي الرأي ذما وطعنا فلا يجوز أن يكون محكما على الرأي الثاني .

          الوجه الثاني : أنه لو لم تعتبر المخالفة في عصرهم لبطل مذهب المخالف لهم في عصرهم بموته ; لأن من بقي بعده كل الأمة ، وذلك خلاف الإجماع .

          [ ص: 259 ] الوجه الثالث أن قول الجماعة لا يزيد على قول النبي عليه السلام ، ووفاة النبي شرط في استقرار الحجة فيما يقوله ، فاشتراط ذاك في استقرار قول الجماعة أولى .

          الوجه الرابع : أنه لو لم يشترط انقراض العصر وإلا فبتقدير أن يتذكر واحد منهم أو جماعة منهم أو جملتهم حديثا عن رسول الله على خلاف إجماعهم ، فإن جاز رجوعهم إليه كان الإجماع الأول خطأ ، وإن لم يجز الرجوع كان استمرارهم على الحكم مع ظهور دليل يناقضه ، وهو أيضا خطأ ولا مخلص منه إلا باشتراط انقراض العصر .

          والجواب عن الآية من وجهين :

          الأول : أنه لا يلزم من وصفهم بأنهم شهداء على الناس وحجة على غيرهم امتناع كون أقوالهم حجة على أنفسهم إلا بطريق المفهوم ولا حجة فيه على ما يأتي ، بل ربما كان قبول قولهم على أنفسهم أولى من قبوله على غيرهم لعدم التهمة ، وتكون فائدة التخصيص التنبيه بالأدنى على الأعلى ، ولهذا فإنه قد يقبل إقرار المرء على نفسه وإن كان لا تقبل شهادته على غيره .

          الثاني : أن المراد بجعلهم شهداء على الناس في يوم القيامة بإبلاغ الأنبياء إليهم فلا يكون ذلك حجة فيما نحن فيه .

          وعن الآثار [1] : أما قول علي فليس فيه ما يدل على اتفاق الأمة وإلا قال : رأيي ورأي الأمة ، والذي يدل على ذلك أنه قد نقل أن جابر بن عبد الله كان يرى جواز بيعهن في زمن عمر ومع مخالفته فلا إجماع ، وقول السلماني ليس فيه أيضا ما يدل على اتفاق الجماعة على ذلك ; لأنه يحتمل أنه أراد به : رأيك مع رأي الجماعة ، ويحتمل أنه أراد به : رأيك في زمن الجماعة والإلفة والطاعة للإمام أحب إلينا من رأيك في زمن الفتنة وتشتيت الكلمة ، نفيا للتهمة عن علي في تطرقها إليه في [ ص: 260 ] مخالفة الشيخين ، وبتقدير أن يكون علي قد خالف بعد انعقاد الإجماع فلعله كان ممن يرى اشتراط انقراض العصر ، ولا حجة في قول الواحد في محل النزاع .

          وأما قضية التسوية فلا نسلم أن عمر خالف فيها بعد الوفاق فإنه روي أنه خالف أبا بكر في ذلك في زمانه ، وقال له : أتجعل من جاهد في سبيل الله بنفسه وماله كمن دخل في الإسلام كرها ، فقال أبو بكر : إنما عملوا لله وإنما أجرهم على الله وإنما الدنيا بلاغ .

          ولم يرو أن عمر رجع إلى قول أبي بكر ، وإنما فضل في زمانه وعود الأمر إليه [2] ; لأنه كان مصرا على المخالفة .

          وأما حده للشارب ثمانين ، فغايته أنه خالف الإجماع السكوتي ، ونحن نقول بجواز ذلك ; لكونه كان من جملة الساكتين على ما بيناه في المسألة المتقدمة .

          وعن الحجة الأولى من المعقول ، أنه وإن كان مصير كل واحد من المجتهدين إلى الحكم عن اجتهاد وظن ولكن بعد اتفاقهم على الحكم إنما يجوز الرجوع عنه بالاجتهاد أن لو لم يصر الحكم بإجماعهم قطعيا .

          وأما إذا صار قطعيا فيمتنع العود عنه وتركه بالاجتهاد الظني ، وهذا بخلاف العود عن الاجتهاد الظني بالاجتهاد الظني .

          وعن الثانية أنه قد ذهب بعض من نص هذا المذهب إلى إبطال مذهب المخالف بموته ، وقال بانعقاد إجماع من بقي ومنهم من قال : إنما [3] لم يبطل مذهبه ولا ينعقد الإجماع بعده ; لأن من بعده ليس هم كل الأمة بالنسبة إلى هذه المسألة التي خالف فيها الميت ، فإن فتواه لا تبطل بموته وهو الحق .

          وعن الثالثة : بالفرق بين النبي عليه السلام والأمة أن قوله إنما لم يستقر قبل موته لإمكان نسخه من الله تعالى وهو مرتقب .

          وذلك إنما هو بالوحي القاطع ، ورفع القاطع بالقاطع على طريق النسخ غير ممتنع بخلاف رفع حكم الإجماع القاطع بطريق الاجتهاد .

          وعن الرابعة : أن ما فرضوه من تذكر الخبر المخالف لإجماعهم فهو فرض محال ، بل الله تعالى يعصم الأمة عن الإجماع على خلاف الخبر ، وذلك يوجب إما عدم الخبر المخالف أو أن يعصم الراوي له عن النسيان إلى تمام انعقاد الإجماع ، وعلى هذا يكون الحكم فيما يقال من اطلاع التابعين على خبر مخالف للإجماع السابق .

          التالي السابق


          الخدمات العلمية