الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
          الفصل الثالث

          في تحقيق معنى المندوب وما يتعلق به من المسائل

          والمندوب في اللغة مأخوذ من الندب وهو الدعاء إلى أمر مهم ، ومنه قول الشاعر :

          (

          لا يسألون أخاهم حين يندبهم في النائبات على ما قال برهانا

          ) .

          وأما في الشرع فقد قيل : ( هو ما فعله خير من تركه ) ويبطل بالأكل قبل ورود الشرع ، فإنه خير من تركه لما فيه من اللذة واستبقاء المهجة وليس مندوبا .

          وقيل : ( هو ما يمدح على فعله ولا يذم على تركه ) ويبطل بأفعال الله تعالى فإنها كذلك وليست مندوبة .

          فالواجب أن يقال : ( هو المطلوب فعله شرعا من غير ذم على تركه مطلقا ) ، ( فالمطلوب فعله ) احتراز عن الحرام والمكروه والمباح وغيره من الأحكام الثابتة بخطاب الوضع والأخبار ، و ( نفي الذم ) [1] احتراز عن الواجب المخير والموسع في أول الوقت [2] وإذا عرف معنى المندوب ففيه مسألتان :

          [ ص: 120 ] المسألة الأولى

          ذهب القاضي أبو بكر وجماعة من أصحابنا إلى أن المندوب مأمور به ، خلافا للكرخي وأبي بكر الرازي من أصحاب أبي حنيفة .

          احتج المثبتون بأن فعل المندوب يسمى طاعة بالاتفاق ، وليس ذلك لذات الفعل المندوب إليه وخصوص نفسه ، وإلا كان طاعة بتقدير ورود النهي عنه ولا لصفة من الصفات التي يشاركه فيها غيره من الحوادث وإلا كان كل حادث طاعة ، ولا لكونه مرادا لله تعالى وإلا كان كل مراد الوقوع طاعة وليس كذلك ، ولا لكونه مثابا عليه فإنه لا يخرج عن كونه طاعة وإن لم يثب عليه ، ولا لكونه موعودا بالثواب عليه ; لأنه لو ورد فيه وعد لتحقق لاستحالة الخلف في خبر الشارع ، والثواب غير لازم له بالإجماع ، والأصل عدم ما سوى ذلك ، فتعين أن يكون طاعة لما فيه من امتثال الأمر ؛ فإن امتثال الأمر يسمى طاعة ولهذا يقال : فلان مطاع الأمر ، ومنه قول الشاعر :

          (

          ولو كنت ذا أمر مطاع لما بدا     توان من المأمور في كل أمركا

          ) .

          كيف وقد شاع وذاع إطلاق أهل الأدب قولهم بانقسام الأمر إلى أمر إيجاب وأمر ندب .

          فإن قيل : أمكن أن يكون طاعة لكونه مقتض ومطلوبا ممن له الطلب والاقتضاء ، ولا يلزم أن يكون ذلك لكونه مأمورا ، ثم لو كان فعله طاعة لكونه مأمورا لكان تركه معصية لكونه مأمورا ، ولذلك يقال : أمر فعصى ، ومنه قول الشاعر :

          (

          أمرتك أمرا جازما فعصيتني

          ) .

          وليس كذلك بالإجماع .

          ويدل على أنه غير مأمور قوله عليه السلام : " لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة " ، وقوله عليه السلام لبريرة وقد عتقت تحت عبد : " لو راجعتيه . فقالت : بأمرك يا رسول الله ؟ فقال : لا إنما أنا شافع " نفى الأمر في الصورتين مع أن الفعل فيهما مندوب ، فدل على أن المندوب ليس مأمورا .

          [ ص: 121 ] قلنا : أما الاقتضاء والطلب فهو الأمر عندنا على ما يأتي ، فتسليمه تسليم لمحل النزاع .

          قولهم : لا يسمى تاركه عاصيا . قلنا : لأن العصيان اسم ذم مختص بمخالفة أمر الإيجاب ولا بمخالفة مطلق أمر ، ويجب أن يكون كذلك جمعا بين ما ذكروه من الإطلاق وما ذكرناه من الدليل ، ولمثل هذا يجب حمل الحديثين على أمر الإيجاب دون الندب . ويخص الحديث الأول أنه قيده بالمشقة ، وهي لا تكون في غير أمر الإيجاب ، وإذا ثبت كونه مأمورا فهو حسن بجميع الاعتبارات السابق ذكرها في مسألة التحسين والتقبيح ، وهل هو داخل في مسمى الواجب ؟ فالكلام فيه على ما سيأتي في الجائز نفيا وإثباتا .

          التالي السابق


          الخدمات العلمية