الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
          المسألة الثانية

          مذهب أصحابنا وأهل السنة أن شكر المنعم واجب سمعا لا عقلا ، خلافا للمعتزلة في الوجوب العقلي ، احتج أصحابنا على امتناع إيجاب العقل لذلك بأن قالوا : لو كان العقل موجبا فلا بد وأن يوجب لفائدة ، وإلا كان إيجابه عبثا وهو قبيح ، ويمتنع عود الفائدة إلى الله تعالى لتعاليه عنها وإن عادت إلى العبد ، فإما أن تعود إليه في الدنيا أو في الأخرى .

          الأول محال ، فإن شكر الله تعالى عند الخصوم ليس هو معرفة الله تعالى ; لأن الشكر فرع المعرفة ، وإنما هو عبارة عن إتعاب النفس وإلزام المشقة لها [ ص: 88 ] بتكليفها تجنب المستقبحات العقلية وفعل المستحسنات العقلية ، وهو فرع التحسين والتقبيح العقلي ، وقد أبطلناه [1] فلم يبق سوى التعب والعناء المحض الذي لا حظ للنفس فيه .

          [2] والثاني محال ; لعدم استقلال العقل بمعرفة الفائدة الأخروية دون إخبار الشارع بها ولا إخبار [3] ، وأيضا فإنه لا معنى لكون الشيء واجبا سوى ترجح فعله على تركه ، وبالعقل يعرف الترجيح لا أنه مرجح فلا يكون موجبا إذ الموجب هو المرجح [4] ، وإذا بطل الإيجاب العقلي تعين الإيجاب الشرعي ضرورة انعقاد الإجماع على حصر الوجوب في الشرع والعقل ، فإذا بطل أحد القسمين تعين الثاني منهما .

          فإن قيل : شكر المنعم معلوم لكل أحد ضرورة فما ذكرتموه استدلال على إبطال أمر ضروري فلا يقبل ، وإن لم يكن كذلك فلم قلتم : إن إيجاب العقل للشكر لا بد وأن يكون لفائدة . قولكم : " حتى لا يكون عبثا قبيحا " فهذا منكم لا يستقيم مع إنكار القبح العقلي ، كيف وإن تلك الفائدة إما أن تكون واجبة التحصيل ، وإما أن لا تكون كذلك ، فإن كانت واجبة التحصيل استدعت فائدة أخرى وهو تسلسل ممتنع .

          [ ص: 89 ] وإن لم تكن واجبة فما يوجبه العقل بها [5] أولى أن لا يكون واجبا .

          وإن كان لفائدة فما المانع أن تكون الفائدة في الشكر نفس الشكر لا أمرا خارجا عنه ، كما أن تحصيل المصلحة ودفع المفسدة عن النفس مطلوب لنفسه لا لغيره ، وإن كان لا بد من فائدة خارجة عن كون الشكر شكرا فما المانع أن تكون الفائدة الأمن من احتمال العقاب بتقدير عدم الشكر على ما أنعم الله به عليه من النعم ; إذ هو محتمل ولا يخلو العاقل عن خطور هذا بباله ، وذلك من أعظم الفوائد ، وإن سلم دلالة ما ذكرتموه على امتناع الإيجاب العقلي لكنه بعينه دال على امتناع الإيجاب الشرعي ، والجواب أن ذاك [6] يكون مشتركا وإن لم يكن كذلك .

          ولكن ما ذكرتموه معارض بما يدل على جواز الإيجاب العقلي ، وذلك أنه لو لم يكن العقل موجبا لانحصرت مدارك الوجوب في الشرع لما ذكرتموه في الإجماع ، وذلك محال لما يلزم عنه من إفحام الرسل وإبطال مقصود البعثة ، وذلك أن النبي إذا ادعى وتحدى بالمعجزة ودعا الناس إلى النظر فيها لظهور صدقه ، فللمدعو أن يقول : لا أنظر في معجزتك إلا أن يكون النظر واجبا علي شرعا ، ووجوب النظر شرعا متوقف على استقرار الشرع ، وذلك متوقف على وجوب النظر وهو دور ممتنع .

          والجواب : لا نسلم أن العلم الضروري [7] بما ذكروه عقلا ; إذ هو دعوى محل النزاع وإن سلم ذلك ، لكن بالنسبة إلى من ينتفع بالشكر ويتضرر بعدمه ، وأما بالنسبة إلى الله تعالى مع استحالة ذلك في حقه فلا .

          [8] قولهم : لم قلتم برعاية الفائدة ؟ قلنا : لما ذكرناه .

          قولهم : هذا منكم لا يستقيم . قلنا : إنما ذكرنا ذلك بطريق الإلزام للخصم لكونه قائلا به ، وبه يبطل ما ذكروه في إبطال رعاية الفائدة ، كيف وقد أمكن [ ص: 90 ] أن يقال بوجوب تحصيل الحكمة لحكمة هي نفسها كما ذكروه من جلب المصلحة ودفع المفسدة عن النفس ، ولا يمكن أن يقال مثل ذلك في فعل الشكر ، فإن نفس الفعل ليس هو الحكمة المطلوبة من إيجاده ، ولو أمكن ذلك لأمكن أن يقال مثله في جميع الأفعال ، وهو خلاف الإجماع ، وإذا لم تكن الفائدة المطلوبة من إيجاده بقي التقسيم بحاله .

          قولهم : ما المانع أن الفائدة هي الأمن على ما ذكروه ، فهو مبني على امتناع خلو العاقل عن خطور ما ذكروه من الاحتمال بباله ، وهو غير مسلم على ما هو معلوم من أكثر العقلاء شاهدا ، وبتقدير صحة ذلك ، فما ذكروه معارض باحتمال خطور العقاب بباله على شكر الله تعالى وإتعابه لنفسه وتصرفه فيها ، مع أنها مملوكة لله تعالى دون إذنه من غير منفعة ترجع إليه [9] ولا إلى الله تعالى .

          وليس أحدهما أولى من الآخر ، بل ربما كان هذا راجحا ، وذلك من جهة أنه قد تقرر في العقول أن من أخذ في التقرب والخدمة إلى بعض الملوك العظماء بتحريك أنملته في كسر بيته ، وإظهار شكره بين العباد في البلاد على إعطائه لقمة مع استغنائه واستغناء الملك عنها ، فإنه يعد مستهزئا بذلك الملك مستحقا للعقاب على صنعه .

          ولا يخفى أن شكر الشاكرين بالنسبة إلى جلال الله تعالى دون تحريك الأنملة بالنسبة إلى جلال الملك ، وأن ما أنعم الله به على العبيد لعدم تناهي ملكه وتناهي ملك غيره دون تلك اللقمة ، فكان المتعاطي لخدمة الله وشكره على ما أنعم به عليه به أولى بالذم واستحقاق العقاب ، ولولا ورود الشرع بطلب ذلك من العبيد وحثهم عليه لما وقع [10] الإقدام عليه .

          وما يقال من حال [11] المشتغل بالشكر والخدمة أرجى حالا من المعرض عن ذلك عرفا فكان أولى ، فهو مسلم في حق من ينتفع بالخدمة والشكر ويتضرر بعدمهما ، والباري تعالى منزه عن ذلك فلا يطرد ما ذكروه في حقه .

          [12] [ ص: 91 ] قولهم : ما ذكرتموه لازم عليكم في الإيجاب الشرعي ليس كذلك ، فإن الفائدة الأخروية وإن لم يستقل العاقل بمعرفتها فالله تعالى عالم بها ، كيف وإن ذلك إنما يلزم منا أن لو اعتبرنا الحكمة في الإيجاب الشرعي ، وليس ذلك على ما عرف من أصلنا .

          [13] وأما المعارضة بما ذكروه من إفحام الرسل فجوابه من وجهين :

          الأول : منع توقف استقرار الشرع على نظر المدعو في المعجزة ، بل مهما ظهرت المعجزة في نفسها وكان صدق النبي فيما ادعاه ممكنا وكان المدعو عاقلا متمكنا من النظر والمعرفة ، فقد استقر الشرع وثبت ، والمدعو مفرط في حق نفسه .

          الثاني : إن الدور لازم على القائل بالإيجاب العقلي ; لأن العقل بجوهره غير موجب دون النظر والاستدلال ، وإلا لما خلا عاقل عن ذلك ، وعند ذلك فللمدعو أن يقول : لا أنظر في معجزتك حتى أعرف وجوب النظر ، ولا أعرف وجوب النظر حتى أنظر ، وهو دور مفحم . والجواب إذ ذاك يكون واحدا ، وعلى كل تقدير فالمسألة ظنية لا قطعية .

          التالي السابق


          الخدمات العلمية