الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
          [ ص: 275 ] المسألة الحادية والعشرون

          إذا اختلف أهل عصر من الأعصار في مسألة من المسائل على قولين ، واستقر خلافهم في ذلك ولم يوجد له نكير ، فهل يتصور انعقاد إجماع من بعدهم على أحد القولين بحيث يمتنع على المصير إلى القول الآخر أم لا ؟

          ذهب أبو بكر الصيرفي من أصحاب الشافعي ، وأحمد بن حنبل ، وأبو الحسن الأشعري ، وإمام الحرمين ، والغزالي وجماعة من الأصوليين إلى امتناعه .

          وذهب المعتزلة وكثير من أصحاب الشافعي وأبي حنيفة إلى جوازه .

          والأول هو المختار ; وذلك لأن الأمة إذا اختلفت على القولين واستقر خلافهم في ذلك بعد تمام النظر والاجتهاد فقد انعقد إجماعهم على تسويغ الأخذ بكل واحد من القولين باجتهاد أو تقليد ، وهم معصومون من الخطأ فيما أجمعوا عليه على ما سبق من الأدلة السمعية .

          فلو أجمع من بعدهم على أحد القولين على وجه يمتنع على المجتهد المصير إلى القول الآخر - مع أن الأمة في العصر الأول مجمعة على جواز الأخذ به [1] - ففيه تخطئة أهل العصر الأول فيما ذهبوا إليه .

          ويستحيل أن يكون الحق في جواز الأخذ بذلك القول ، والمنع من الأخذ به معا ، فلا بد وأن يكون أحد الأمرين خطأ أو يلزمه تخطئة أحد الإجماعين القاطعين وهو محال ، فثبت أن إجماع التابعين على أحد قولي أهل العصر الأول يفضي إلى أمر ممتنع ، فكان ممتنعا .

          لكن ليس هذا الامتناع عقليا بل سمعيا .

          [ ص: 276 ] فإن قيل اتفاق أهل العصر على قولين [2] لا يلزم منه اتفاقهم على تجويز الأخذ بكل واحد منهما ; لأن أحد القولين لا بد وأن يكون خطأ لقوله عليه السلام : " إذا اجتهد الحاكم فأخطأ فله أجر ، وإن أصاب فله أجران " ، وإجماع الأمة على تجويز الأخذ بالخطأ خطأ [3] ، وإن سلمنا إجماعهم على ذلك ، ولكن ما المانع أن يقال بأن أهل العصر الأول إنما اتفقوا على تسويغ الاجتهاد والأخذ بكل واحد من القولين بشرط أن لا يظهر إجماع كاتفاقهم على أن فرض العادم للماء هو التيمم مشروطا بعدم الماء ، فإذا وجد الماء زال حكم ذلك الإجماع .

          سلمنا أن إجماعهم على ذلك غير مشروط ولكن إجماعهم على ذلك يدل على جواز الأخذ بأحد القولين .

          فإذا أجمع أهل العصر الثاني على أحد القولين فإجماعهم عليه موافق لإجماع أهل العصر الأول على جواز الأخذ به إلا أنه [4] مخالف لإجماعهم ، وما يكون موافقا للإجماع لا يكون ممتنعا سمعا .

          سلمنا دلالة ما ذكرتموه على الامتناع ، لكنه معارض بما يدل على جوازه وبيانه بالوقوع وذلك أن الصحابة اتفقوا على دفن رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيت عائشة بعد اختلافهم في موضع دفنه ، واتفقوا على إمامة أبي بكر بعد اختلافهم في من يكون إماما ، واتفقوا على قتال مانعي الزكاة بعد اختلافهم في ذلك ، واتفق التابعون على منع بيع أمهات الأولاد بعد اختلاف الصحابة في ذلك ، ولو كان الاتفاق بعد الخلاف ممتنعا لما كان ذلك واقعا .

          والجواب عن السؤال الأول : لا نسلم أن أحد القولين لا بد وأن يكون خطأ بل كل مجتهد في مسائل الاجتهاد مصيب على ما يأتي تحقيقه [5] .

          وما ذكروه من الخبر فسيأتي تأويله كيف وإنه يجب اعتقاد الإصابة نظرا إلى إجماع الأمة على جواز الأخذ بكل واحد من أقوال المجتهدين ولو لم يكن صوابا [ ص: 277 ] وإلا كان إجماعهم على تجويز الأخذ بالخطأ [6] ، وهو محال .

          وعن السؤال الثاني أنه لو جوز مثل هذا الاشتراط في إجماعهم على مثل هذا الحكم مع أن الأمة أطلقوا ولم يشترطوا ؛ لساغ مثل ذلك في كل إجماع ، ولساغ أن تتفق الأمة على قول واحد ، ومن بعدهم على خلافه ؛ لجواز أن يكون إجماعهم مشروطا بأن لا يظهر إجماع مخالف له بل ولجاز للواحد من المجتهدين من بعدهم المخالفة ، لما قيل من الشرط وهو محال ; لأن الإجماع منعقد على أن كل من خالف الإجماع المطلق الذي لم يظهر فيه ما ذكروه من الشرط فهو مخطئ آثم [7] ، وبه إبطال ما صار إليه أبو عبد الله البصري من جواز انعقاد الإجماع على خلاف الإجماع السابق .

          وعن السؤال الثالث أن إجماع أهل العصر الثاني لم يكن محالا لنفس إجماعهم على أحد القولين بل لما يستلزمه من امتناع الأخذ الآخر [8] .

          وعن السؤال الرابع أن الاتفاق فيما ذكروه من مسألة الدفن والإمامة وقتال مانعي الزكاة لم يكن بعد استقرار الخلاف فيما بينهم واستمرار كل واحد من المجتهدين على الجزم بما ذهب إليه ، بل إنما كان ذلك الخلاف على طريق المشورة كما جرت به العادة في حالة البحث عما ينبغي أن يعمل بين العقلاء بخلاف ما وقع النزاع فيه .

          سلمنا أنه كان ذلك الاتفاق بعد استقرار الخلاف غير أنه اتفاق من المختلفين بأعيانهم ، ومن شرط في الإجماع انقراض عصر المجتهدين لم يمنع من رجوعهم أو رجوع بعضهم عما أجمعوا عليه ، والخلاف معه إنما يتصور في المجمعين على خلافهم بعد انقراض عصر الأولين ، غير أن الجواب الأول هو المختار [9] .

          [ ص: 278 ] وأما مسألة أمهات الأولاد وإن كان خلاف الصحابة قد استقر واستمر إلى انقراض عصرهم فلا نسلم إجماع التابعين قاطبة على امتناع بيعهن .

          فإن مذهب علي في جواز بيعهن لم يزل بل جميع الشيعة وكل من هو من أهل الحل والعقد على مذهبه قائل به وإلى الآن وهو مذهب الشافعي في أحد قوليه .

          التالي السابق


          الخدمات العلمية