الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
          [ ص: 256 ] المسألة السادسة عشرة

          اختلفوا في انقراض العصر ، هل هو شرط في انعقاد الإجماع أو لا ؟

          فذهب أكثر أصحاب الشافعي ، وأبي حنيفة والأشاعرة والمعتزلة إلى أنه ليس بشرط ، وذهب أحمد بن حنبل ، والأستاذ أبو بكر بن ذفورك إلى اعتباره شرطا .

          ومن الناس من فصل وقال : إن كان قد اتفقوا بأقوالهم أو أفعالهم أو بهما ، لا يكون انقراض العصر شرطا .

          وإن كان الإجماع بذهاب واحد من أهل الحل والعقد إلى حكم وسكت الباقون عن الإنكار مع اشتهاره فيما بينهم ، فهو شرط ، وهذا هو المختار .

          لكن قد احتج القائلون بعدم الاشتراط بمسلكين ضعيفين لا بد من الإشارة إليهما ووجه ضعفهما ، ثم نذكر بعد ذلك ما هو المختار .

          المسلك الأول : أنهم قالوا : وقع الإجماع على كون الإجماع حجة بعد انقراض العصر إذا لم يوجد لهم مخالف ، فالحجة إما أن تكون في نفس الاتفاق أو نفس انقراض العصر أو مجموع الأمرين .

          لا جائز أن يقال بالثاني ، وإلا كان انقراض العصر دون الاتفاق حجة وهو محال ، ولا جائز أن يقال بالثالث وإلا كان موتهم مؤثرا في جعل أقوالهم حجة وهو محال كما في موت النبي عليه السلام ، فلم يبق سوى الأول ، وهو ثابت قبل انقراض العصر وذلك هو المطلوب .

          ولقائل أن يقول : ما المانع أن تكون الحجة في اتفاقهم مشروطا بعدم المخالف لهم في عصرهم .

          ولا يخفى أن دعوى إحالة ذلك غير محل النزاع ، ولا يلزم من عدم اشتراط عدم مخالفة النبي عليه السلام في صحة الاحتجاج بقوله عدم اشتراط ذلك فيما نحن فيه إذ هو تمثيل جامع صحيح ، كيف والفرق حاصل من جهة أن قول النبي مستند إلى الوحي على ما قال تعالى : ( وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى ) ، وقول غيره ليس عن وحي حتى يقع في مقابلة قوله ، وأما قول غيره فمستند إلى الاجتهاد ، وقول المخالف له أيضا مستند إلى الاجتهاد ، وليس أحدهما أولى من الآخر فافترقا .

          [ ص: 257 ] المسلك الثاني : هو أن القول باشتراط انقراض العصر يفضي إلى عدم تحقق الإجماع مطلقا مع كونه حجة متبعة ، وكل شرط أفضى إلى إبطال المشروط المتفق على تحقيقه كان باطلا .

          وبيان ذلك أن من اشترط انقراض العصر جوز لمن حدث من التابعين لأهل ذلك العصر إذا كان من أهل الاجتهاد مخالفتهم ، وشرط في صحة إجماعهم موافقته لهم ، وإذا صار التابعي من أهل الإجماع فقد لا ينقرض عصرهم حتى يحدث تابع التابعي .

          والكلام فيه كالكلام في الأول وهلم جرا إلى يوم القيامة ، ومع ذلك فلا يكون الإجماع متحققا في عصر من الأعصار .

          ولقائل أن يقول : القائلون باشتراط انقراض العصر اختلفوا في إدخال من أدرك المجمعين من التابعين لهم في إجماعهم ، فذهب أحمد بن حنبل إلى أنه لا مدخل للتابعي في إجماع أهل ذلك العصر في إحدى الروايتين عنه ، مع أنه يشترط انقراض العصر .

          وفائدة اشتراطه لذلك إمكان رجوع المجمعين أو بعضهم عما حكموا به أولا لا لجواز وجود مجتهد آخر ، وعلى هذا فالإشكال يكون مندفعا .

          وبتقدير تسليم دخول التابع لهم في إجماعهم فلا يمتنع أن يكون الشرط هو انقراض عصر المجمعين عند حدوث الحادثة ، واعتبار موافقة من أدرك ذلك العصر من المجتهدين لا عصر من أدرك عصرهم ، وعلى هذا فالإشكال لا يكون متجها .

          والمعتمد في ذلك أن يقال : إذا اتفق إجماع أمة عصر [1] من الأعصار على حكم حادثة ، فهم كل الأمة بالنسبة إلى تلك المسألة وتجب عصمتهم في ذلك عن الخطأ على ما سبق من النصوص في مسألة إثبات كون الإجماع حجة ، وذلك غير متوقف على انقراض عصرهم .

          هذا فيما إذا اتفقوا على الحكم بأقوالهم أو أفعالهم أو بهما ، وأما إن حكم واحد بحكم وانتشر حكمه فيما بينهم وسكتوا عن الإنكار وإن كان الظاهر الموافقة على ما سبق تقريره ، فذلك مما لا يمنع من إظهار بعضهم [ ص: 258 ] المخالفة في وقت آخر لاحتمال أن يكون في مهلة النظر ، وقد ظهر له الدليل عند ذلك ، ويدل على ظهور هذا الاحتمال إظهاره للمخالفة ، فإنه لو كان سكوته عن موافقة ودليل لكان الظاهر عدم مخالفته لذلك الدليل .

          وأما إن حدث تابعي مخالف مع إصرار الباقين على السكوت ، فالظاهر أنه لا يعتد بمخالفته في مقابلة الإجماع الظاهر .

          احتج المخالفون بالنص والآثار والمعقول ، أما النص فقوله تعالى : ( وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ) ووجه الدلالة أنه جعلهم حجة على الناس ، ومن جعل إجماعهم مانعا لهم من الرجوع فقد جعلهم حجة على أنفسهم .

          وأما الآثار فمنها ما روي عن علي عليه السلام أنه قال : اتفق رأيي ورأي عمر على أن لا تباع أمهات الأولاد ، والآن فقد رأيت بيعهن - أظهر الخلاف بعد الوفاق - ودليله قول عبيدة السلماني : رأيك مع الجماعة أحب إلينا من رأيك وحدك ، وقول عبيدة دليل سبق الإجماع .

          ومنها أن عمر خالف ما كان عليه أبو بكر والصحابة في زمانه من التسوية في القسم ، وأقره الصحابة أيضا على ذلك .

          ومنها أن عمر حد الشارب ثمانين ، وخالف ما كان أبو بكر والصحابة عليه من الحد أربعين .

          التالي السابق


          الخدمات العلمية