الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
          المسألة الثانية

          مذهب الجمهور من أصحابنا ومن المعتزلة أنه لا يشترط في التكليف بالفعل أن يكون شرطه [1] حاصلا حالة التكليف ، بل لا مانع من ورود التكليف بالمشروط وتقديم [2] شرطه عليه ، وهو جائز عقلا وواقع سمعا .

          خلافا لأكثر أصحاب الرأي وأبي حامد الإسفراييني من أصحابنا ، وذلك كتكليف الكفار بفروع الإسلام حالة كفرهم .

          [ ص: 145 ] ودليل الجواز العقلي أنه لو خاطب الشارع الكافر المتمكن من فهم الخطاب وقال له : " أوجبت عليك العبادات الخمس المشروط صحتها بالإيمان ، وأوجبت عليك الإتيان بالإيمان مقدما عليها " لم يلزم منه لذاته محال عقلا ولا معنى للجواز العقلي سوى هذا .

          فإن قيل : التكليف بالفروع المشروطة بالإيمان إما أن تكون حالة وجود الإيمان أو حالة عدمه .

          فإن كان الأول فلا تكليف قبل الإيمان ، وهو المطلوب .

          وإن كان حالة عدمه فهو تكليف بما هو غير جائز عقلا .

          وأيضا فإن التكليف بالفروع غير ممكن الامتثال ؛ لاستحالة أدائها حالة الكفر ، وامتناع أدائها بعد الإيمان ، لكونه مسقطا لها بالإجماع .

          وما لا يمكن امتثاله فالتكليف به تكليف بما لا يطاق ولم يقل به قائل في هذه المسألة .

          قلنا : أما الإشكال الأول فإنما يلزم منه التكليف بما لا يطاق بتقدير تكليفه بالفروع حالة الكفر أن لو كان تكليفه بمعنى إلزامه الإتيان بها مع الكفر ، وليس كذلك ، بل بمعنى أنه لو أصر على الكفر حتى مات ولم يأت بها مع الإيمان فإنه يعاقب في الدار الآخرة ولا إحالة فيه .

          وبهذا الحرف يندفع ما ذكروه من الإشكال الثاني أيضا .

          كيف وأن الامتثال بعد الإسلام غير ممتنع أن الشارع أسقطه ترغيبا في الدخول في الإسلام بقوله عليه السلام : " الإسلام يجب ما قبله " وهذا بخلاف المرتد ، حيث إنه أوجب عليه فعل ما فاته في حال ردته ليكون ذلك مانعا من الردة [3] .

          وأما الوقوع شرعا فيدل عليه النص والحكم .

          أما النص فمن وجوه الأول قوله تعالى : ( لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين ) إلى قوله تعالى : ( وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة ) والضمير في قوله : ( وما أمروا ) عائد إلى المذكورين أولا وهو صريح في الباب .

          [ ص: 146 ] وأيضا قوله تعالى : ( فلا صدق ولا صلى ولكن كذب وتولى ) ذم على ترك الجميع ، ولو لم يكن مكلفا بالكل لما ذم عليه .

          وأيضا قوله تعالى : ( والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون ومن يفعل ذلك يلق أثاما يضاعف له العذاب يوم القيامة ويخلد فيه مهانا ) حكم بمضاعفة العذاب على مجموع المذكور والزنى من جملته .

          ولولا أنه محرم عليه ومنهي عنه لما أثمه به ، وهذه حجة على من نفى التكليف بالأمر والنهي دون من جوز التكليف بالنهي دون الأمر [4] .

          وأيضا قوله تعالى : ( ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا ) والكافر داخل فيه لكونه من الناس .

          وأيضا قوله تعالى : ( وويل للمشركين الذين لا يؤتون الزكاة ) لكن قال المفسرون : المراد بالزكاة في هذه الآية إنما هو قول : ( لا إله إلا الله ) [5]

          وأيضا قوله تعالى : ( ما سلككم في سقر قالوا لم نك من المصلين ولم نك نطعم المسكين ) ولو لم يكونوا قد كلفوا بالصلاة لما عوقبوا عليها .

          فإن قيل : هذه حكاية قول الكفار ، ولا حجة فيها ، وإن كانت حجة لكن أمكن أن يكون المراد من قولهم : ( لم نك من المصلين ) أي من المؤمنين .

          ومنه قوله عليه السلام : " نهيت عن قتل المصلين " وأراد به المؤمنين ، وإن كان المراد الصلاة الشرعية حقيقة ، غير أن العذاب إنما كان لتكذيبهم بيوم الدين ، غير أنه غلط بإضافة ترك الطاعات إليه وإن كان ذلك مضافا إلى الصلاة لكن لا إلى تركها ، بل إلى إخراجهم أنفسهم عن العلم بقبح تركها بترك الإيمان وإن كان ذلك على ترك الصلاة لكن أمكن أن يكون ذلك إخبارا عن جماعة من المرتدين تركوا الصلاة حالة ردتهم وذلك محل الوفاق .

          [ ص: 147 ] والجواب عن قولهم إنه حكاية قول الكفار أن علماء الأمة من السلف وغيرهم أجمعوا على أن المراد بذلك إنما هو تصديقهم فيما قالوه والتحذير لغيرهم من ذلك .

          ويدل على ذلك تعذيبهم بالتكذيب بيوم الدين ، وقد عطف على ما قبله .

          والأصل اشتراك المعطوف والمعطوف عليه في أصل الحكم .

          وعن حمل لفظ المصلين على المؤمنين أنه ترك للظاهر من غير دليل ، وإن أمكن تأويل لفظ الصلاة فبماذا نتأول قوله : ( ولم نك نطعم المسكين ) فإن المراد به إنما هو الإطعام الواجب لاستحالة - [6] - التعذيب على ترك إطعام ليس بواجب .

          وعن قولهم بتغليظ عذاب التكذيب بإضافة ترك الطاعات إليه أنها لو كانت مباحة لما غلظ العذاب بها .

          وعن قولهم بالتعذيب بإخراج أنفسهم عن العلم بقبح ترك الصلاة أنه ترك للظاهر من غير دليل ، وأنه يوجب التسوية بين كافر ارتكب جميع المحرمات وبين من لم يباشر شيئا منها لاستوائهما فيما قيل ، وهو خلاف الإجماع .

          وعن الحمل على صلاة المرتدين أن الآية بلفظها عامة في كل المجرمين المذكورين في قوله : ( يتساءلون عن المجرمين ) وهو عام في المرتدين وغيرهم فلا يجوز تخصيصها من غير دليل .

          هذا من جهة النصوص .

          وأما من جهة الإلزام ، فهو أنه لو امتنع التكليف بالفعل مع عدم شرط الفعل - [7] - لامتنع التكليف بالصلاة مع عدم الطهارة ، ولكان من ترك الطهارة والصلاة أبدا لا يعاقب ولا يذم إلا على ترك الطهارة ، بل ما لا تتم الطهارة إلا به .

          وذلك خلاف إجماع الأمة .

          التالي السابق


          الخدمات العلمية