الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
          معلومات الكتاب

          الإحكام في أصول الأحكام

          الآمدي - علي بن محمد الآمدي

          [ ص: 268 ] المسألة التاسعة عشرة

          إذا اختلف أهل العصر في مسألة على قولين هل يجوز لمن بعدهم إحداث قول ثالث ؟

          اختلفوا فيه : فذهب الجمهور إلى المنع من ذلك ، خلافا لبعض الشيعة وبعض الحنفية وبعض أهل الظاهر ، وذلك كما لو قال بعض أهل العصر : إن الجارية الثيب إذا وطئها المشتري ثم وجد بها عيبا يمنع الرد ، وقال بعضهم : بالرد مع العقر ، فالقول بالرد مجانا قول ثالث .

          وكذلك لو قال بعضهم : الجد يرث جميع المال مع الأخ ، وقال بعضهم : بالمقاسمة ، فالقول بأنه لا يرث شيئا قول ثالث .

          وكذلك إذا قال بعضهم : النية معتبرة في جميع الطهارات ، وقال البعض : النية معتبرة في البعض دون البعض ، فالقول بأنها لا في شيء من الطهارات قول ثالث .

          وفي معنى هذا ما لو قال بعضهم : بجواز فسخ النكاح بالعيوب الخمسة ، وقال البعض : لا يجوز الفسخ بشيء منها ، فالقول بالفسخ بالبعض دون البعض قول ثالث .

          وكذلك إذا قال بعضهم في زوج وأبوين أو زوجة وأبوين : للأم ثلث في المسألتين ، وقال بعضهم : لها ثلث ما يبقى بعد نصيب الزوج والزوجة ، فالقول بأن لها ثلث الأصل في إحدى المسألتين وثلث ما يبقى في المسألة الأخرى ؛ قول ثالث .

          احتج الغزالي على امتناع القول الثالث بأنه لو جاز القول الثالث فإما أن لا يكون له دليل أو له دليل .

          فإن كان الأول ، فالقول به ممتنع [1] ، وإن كان الثاني يلزم منه نسبته الخطأ إلى الأمة بنسبتهم إلى تضييعه والغفلة عنه [2] ، وهو محال وهو ضعيف .

          فإنه إنما يلزم [ ص: 269 ] من ذلك نسبة الأمة إلى الخطأ ، أن لو كان الحق في المسألة معينا وهو ليس كذلك على ما سيأتي [3] ، وإذا كان كل مجتهد مصيبا فالتخطئة تكون ممتنعة .

          واحتج القاضي عبد الجبار على ذلك بأن الأمة إذا اختلفت على قولين ، فقد أجمعت من جهة المعنى على المنع من إحداث قول ثالث ; لأن كل طائفة توجب الأخذ بقولها أو بقول مخالفها ، ويحرم الأخذ بغير ذلك وهو ضعيف أيضا ، وذلك لأن الخصم إنما يسلم إيجاب كل واحدة من الطائفتين الأخذ بقولها أو قول مخالفها بتقدير أن لا يكون اجتهاد الغير قد يفضي إلى القول الثالث .

          والمختار في ذلك إنما هو التفصيل ، وهو أنه إن كان القول الثالث مما يرفع ما اتفق عليه القولان فهو ممتنع لما فيه من مخالفة الإجماع ، وذلك كما في مسألة الجارية المشتراة ، فإنه إذا اتفقت الأمة فيها على قولين وهما امتناع الرد ، والرد مع العقر فالقولان متفقان على امتناع الرد مجانا ، فالقول به يكون خرقا للإجماع السابق .

          وكذلك في مسألة الجد ، فإنه إذا اتفقت الأمة على قولين وهما : استقلاله بالميراث ومقاسمته للأخ ، فقد اتفق الفريقان على أن للجد قسطا من المال ، فالقول الحادث أنه لا يرث شيئا يكون خرقا للإجماع .

          وكذلك في مسألة النية في الطهارة إذا اتفقت الأمة فيها على قولين ، وهما اعتبار النية في جميع الطهارات وعلى اعتبارها في البعض دون البعض فقد اتفق القولان على اعتبارها في البعض ، فالقول المحدث النافي لاعتبارها مطلقا يكون خرقا للإجماع السابق .

          وأما إن كان القول الثالث لا يرفع ما اتفق عليه القولان ، بل وافق كل واحد من القولين من وجه وخالفه من وجه ، فهو جائز إذ ليس فيه خرق الإجماع .

          وذلك كما لو قال بعضهم باعتبار النية في جميع الطهارات ، وقال البعض بنفي اعتبارها في جميع الطهارات ، فالقول الثالث وهو اعتبارها في البعض دون البعض لا يكون خرقا للإجماع ; لأن خرق الإجماع إنما هو القول بما [ ص: 270 ] يخالف ما اتفق عليه أهل الإجماع ، وهاهنا ليس كذلك ، فإن القائل بالنفي في البعض والإثبات في البعض قد وافق في كل صورة مذهب ذي مذهب ، فلم يكن مخالفا للإجماع لا في صورة اعتبار النية لكونه موافقا لقول من قال باعتبارها في الكل ، ولا في صورة النفي لكونه موافقا لمن قال بنفي الاعتبار في الكل .

          وكذلك لو قال بعضهم بأنه لا يقتل المسلم بالذمي ولا يصح بيع الغائب ، وقال بعضهم بجواز قتل المسلم بالذمي وبصحة بيع الغائب ، فمن قال بجواز قتل المسلم بالذمي وبنفي صحة بيع الغائب أو بالعكس لم يكن خارقا للإجماع من غير خلاف ، وكان ذلك جائزا له ، وعلى هذا يكون الحكم في مسألة فسخ النكاح بالعيوب الخمسة [4] .

          فإن قيل : فمن قال بالإثبات مطلقا لم يقل بالتفصيل ، وكذلك من قال بالنفي مطلقا ، فالقول بالتفصيل قول لم يقل به قائل .

          قلنا : وعدم القائل به مما لا يمنع من القول به وإلا لما جاز أن يحكم في واقعة متجددة بحكم إذا لم يكن قد سبق فيها لأحد قول ، وهو خلاف الإجماع .

          فإن قيل : فكل من القائلين بالنفي والإثبات مطلقا قائل بنفي التفصيل ؛ فالقول بالتفصيل يكون خرقا للإجماع .

          قلنا : لا نسلم ذلك ، فإن قول كل واحد منهما بنفي التفصيل إما أن يعرف من صريح مقاله أو من قوله بالنفي أو الإثبات مطلقا ، الأول ممنوع حتى أن كل واحد من الفريقين لو صرح بنفي التفصيل لما ساغ القول بالتفصيل ، والثاني غير مستلزم للقول بنفي التفصيل وإلا لامتنع القول بالتفصيل فيما ذكرناه من مسألة المسلم بالذمي وبيع الغائب ، وهو ممتنع .

          فإن قيل : القول بالتفصيل فيه تخطئة كل واحد من الفريقين في بعض ما ذهب إليه ، وتخطئة الفريقين تخطئة للأمة ، وذلك محال .

          [ ص: 271 ] قلنا : المحال إنما هو تخطئة الأمة فيما اتفقوا عليه ، وأما تخطئة كل بعض فيما لم يتفق عليه لا يكون محالا ، وعلى هذا يجوز انقسام الأمة إلى قسمين ، وكل قسم مخطئ في مسألة لما ذكرناه وإن خالف فيه الأكثرون .

          ( شبه المخالفين )

          الأولى : أن اختلاف الأمة على قولين دليل تسويغ الاجتهاد ، والقول الثالث حادث عن الاجتهاد فكان جائزا .

          الثانية : أنهم قالوا : أجمعنا على أن الصحابة لو انقرض عصرهم وكانوا قد استدلوا في مسألة من المسائل بدليلين فإنه يجوز للتابعي الاستدلال بدليل ثالث ، فكذلك القول الثالث .

          الثالثة : أنهم قالوا : دليل جواز إحداث قول ثالث الوقوع من غير إنكار من الأمة ، فمن ذلك أن الصحابة اختلفوا في مسألة زوج وأبوين وزوجة وأبوين ، فقال ابن عباس : للأم ثلث الأصل بعد فرض الزوج والزوجة ، وقال الباقون : للأم ثلث الباقي بعد فرض الزوج والزوجة وقد أحدث التابعون قولا ثالثا ، فقال ابن سيرين [5] بقول ابن عباس في زوج وأبوين دون الزوجة والأبوين ، وقال تابعي آخر بالعكس .

          ومن ذلك أن الصحابة اختلفوا في قوله ( أنت علي حرام ) [6] على ستة أوجه ، فأحدث مسروق وهو من التابعين مذهبا سابعا وهو أنه لا يتعلق بقوله حكم .

          والجواب عن الشبهة الأولى : أن ذلك يدل على تسويغ الاجتهاد منهم أو من غيرهم : الأول مسلم ، والثاني ممنوع .

          وعن الثانية بالفرق ، وبيانه من وجهين :

          الأول أن الاستدلال بدليل ثالث يؤكد ما صارت إليه الأمة من الحكم ، ولا يبطله ، بخلاف القول الثالث على ما حققناه .

          [ ص: 272 ] الثاني أن اتفاقهم على دليل واحد لا يمنع من دليل آخر ، ومع ذلك فإن اتفاقهم على حكم واحد مانع من إبداع حكم آخر مخالف له فافترقا .

          وعن الثالثة : أما مسألة الزوج والزوجة مع الأبوين فهي من قبيل ما لا يرفع ما اتفق عليه الفريقان ، بل قول ابن سيرين وغيره من التابعين فيما ذهبا إليه غير مخالف للإجماع ، بل هو قائل في كل صورة بمذهب ذي مذهب كما قررناه ، وبتقدير أن يكون رافعا لما اتفق عليه الفريقان فلا يخلو إما أن يكون لم يستقر قول جميع الصحابة على القولين بل قول البعض ، أو قد استقر عليهما قول جميع الصحابة ، فإن كان الأول فليس فيه مخالفة الإجماع بل مخالفة البعض ، وإن كان الثاني فإما أن يكون قد خالفهم في وقت اتفاقهم على القولين أو بعد ذلك ، فإن كان الأول فهو من أهل الإجماع وقد خالفهم حالة اتفاقهم على القولين ، فلا يكون بذلك خارقا للإجماع ، وإن قدر إحداث قوله بعد ذلك فهو مردود غير مقبول ، وعدم نقل الإنكار لا يدل على عدمه في نفسه ، وعلى هذا يكون الجواب في مسألة ( أنت علي حرام ) .

          التالي السابق


          الخدمات العلمية