وقد كان حيي بن أخطب دخل مع بني قريظة في حصنهم، حين رجعت عنهم قريش وغطفان، وفاء لكعب بن أسد بما كان عاهده عليه، فلما أيقنوا بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم غير منصرف عنهم، حتى يناجزهم. قال كعب بن أسد لهم: يا معشر يهود، قد نزل بكم من الأمر ما ترون، وإني عارض عليكم خلالا ثلاثا، فخذوا أيها شئتم. قالوا: وما هي؟ قال: نتابع هذا الرجل ونصدقه، فوالله لقد تبين لكم أنه لنبي مرسل، وإنه للذي تجدونه في كتابكم، فتأمنون على دمائكم وأموالكم وأبنائكم ونسائكم. قالوا: لا نفارق حكم التوراة أبدا، ولا نستبدل به غيره، قال: فإذا أبيتم علي هذه، فهلم فلنقتل أبناءنا ونساءنا، ثم نخرج إلى محمد وأصحابه رجالا مصلتين بالسيوف، لم نترك وراءنا ثقلا حتى يحكم الله بيننا، وبين محمد، فإن نهلك نهلك ولم نترك وراءنا نسلا نخشى عليه، وإن نظهر فلعمري لنجد النساء والأبناء. قالوا: نقتل هؤلاء المساكين، فما خير العيش بعدهم؟ قال: فإن أبيتم علي هذه فإن الليلة ليلة السبت، وإنه عسى أن يكون محمد وأصحابه قد أمنونا فيها، فانزلوا لعلنا [ ص: 106 ] نصيب من محمد وأصحابه غرة. قالوا: نفسد سبتنا ونحدث فيه ما لم يحدث فيه من كان قبلنا إلا من قد علمت، فأصابه ما لم يخف عليك من المسخ، قال: ما بات رجل منكم منذ ولدته أمه ليلة واحدة من الدهر حازما.
ثم إنهم بعثوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ابعث إلينا أبا لبابة بن عبد المنذر، أخا بني عمرو بن عوف - وكانوا حلفاء الأوس - نستشيره في أمرنا. فأرسله رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم، فلما رأوه، قام إليه الرجال، وجهش إليه النساء والصبيان يبكون في وجهه، فرق لهم، وقالوا : يا أبا لبابة أترى أن ننزل على حكم محمد؟ قال: نعم، وأشار بيده إلى حلقه، إنه الذبح. قال أبو لبابة: فوالله ما زالت قدماي من مكانهما حتى عرفت أني قد خنت الله ورسوله، ثم انطلق أبو لبابة على وجهه، ولم يأت رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى ارتبط في المسجد إلى عمود من عمده، وقال: لا أبرح مكاني هذا حتى يتوب الله علي مما صنعت، وعاهدت الله أن لا أطأ بني قريظة أبدا، ولا أرى في بلد خنت الله ورسوله فيه أبدا.
فلما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم خبره، وكان قد استبطأه، قال: "أما لو جاءني لاستغفرت له، وأما إذ فعل ما فعل فما أنا بالذي أطلقه من مكانه، حتى يتوب الله عليه" .
وحدثني يزيد بن عبد الله بن قسيط: أبي لبابة نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في بيت أم سلمة ، أن توبة قالت : فسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم من السحر وهو يضحك، قالت: قلت: مم تضحك أضحك الله سنك؟ قال: تيب على أم سلمة أبي لبابة". قالت: قلت: أفلا أبشره يا رسول الله، قال: "بلى إن شئت". قال: فقامت على باب حجرتها، وذلك قبل أن يضرب عليهن الحجاب فقالت: يا أبا لبابة أبشر، فقد تاب الله عليك. قالت: فثار الناس إليه ليطلقوه، فقال: لا والله، حتى يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الذي يطلقني بيده، فلما مر عليه خارجا إلى صلاة الصبح أطلقه.
قال أقام ابن هشام: أبو لبابة مرتبطا بالجذع ست ليال، تأتيه امرأته في وقت كل صلاة فتحله للصلاة، ثم يعود فيرتبط بالجذع فيما حدثني بعض أهل العلم.