الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

لوامع الأنوار البهية وسواطع الأسرار الأثرية

السفاريني - محمد بن أحمد بن سالم السفاريني

صفحة جزء
[ ص: 385 ] ( ( الخامس : ) )

من اغتاب إنسانا ، أو قذفه ونحوه ، هل يشترط لصحة توبته إعلامه بذلك واستحلاله من ذلك ؟ أما المال وما يجوز أن يعتاض عنه بمثله ، أو قيمته ، فلا بد من الرد إن قدر ، قال في الهداية : مظالم العباد تصح التوبة منها على الصحيح في المذهب ، وهو قول ابن عباس ، ومن مات نادما عليها كان الله - عز وجل - المجازي للمظلوم عنه - يعني حيث لم يقدر على رد المظلمة - وفي الخبر : " لا يدخل النار تائب من ذنوبه " . وفي الرعاية : يرد ما أثم به وتاب بسببه ببذله إلى مستحقيه ، وينوي ذلك إذا أمكنه ، أو تعذر رده في الحال ، فالمشهور عند الجمهور لا يجب الإعلام ولا الاستحلال ، قال شيخ الإسلام ابن تيمية : إنه قول الأكثرين ، وإنه إن تاب من قذف إنسان ، أو غيبته قبل علمه به ، لا يشترط لتوبته إعلامه ، والتحلل منه ، واختاره القاضي لما روى أبو محمد الخلال بإسناده عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - مرفوعا " من اغتاب رجلا ثم استغفر له بعد غفر له غيبته " وبإسناده أيضا عن أنس مرفوعا " كفارة من اغتيب أن يستغفر له " ولأن في إعلامه إدخال غم عليه ، قال الشيخ عبد القادر - قدس الله سره - في الغيبة : إن كفارة الاغتياب ما روى أنس - رضي الله عنه - وذكره . وخبر أنس المذكور ذكره الحافظ ابن الجوزي في الموضوعات ، وفيه عنبسة بن عبد الرحمن متروك ، وذكر مثله من حديث سهل بن سعد ، وفيه سليمان بن عمرو كذاب . ومن حديث جابر ، وفيه حفص بن عمر الأبلي متروك . وذكر ابن الجوزي أيضا حديث أنس في كتابه الحدائق ، وقال : إنه لا يذكر فيها إلا الحديث الصحيح . قلت : وقد ذكر في مختصر الموضوعات أن حديث أنس ذكره البيهقي في الدعوات ، وقال : في هذا الإسناد ضعف ، وله شاهد عن الإمام عبد الله بن المبارك من قوله ، أخرجه البيهقي في الشعب ، وأورد له شاهدا حديث حذيفة : كان في لساني ذرب على أهلي فسألت النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال : " أين أنت من الاستغفار " ثم أوله على أن الأمر بالاستغفار رجاء أن يرضى عنه خصمه يوم القيامة ببركة استغفاره .

وذكر الإمام ابن القيم في كتابه الكلم الطيب والعمل الصالح ما لفظه : يذكر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أن كفارة الغيبة أن تستغفر لمن اغتبته تقول : [ ص: 386 ] اللهم اغفر لنا وله . وذكره البيهقي في الدعوات الكبير ، وقال ابن عبد البر في كتاب بهجة المجالس : قال حذيفة - رضي الله عنه - : كفارة من اغتبته أن تستغفر له ، وقال عبد الله بن المبارك لسفيان بن عيينة : التوبة من الغيبة أن تستغفر لمن اغتبته ، وقال سفيان : بل تستغفره مما قلت فيه ، فقال ابن المبارك : لا تؤذه مرتين .

ومثل قول ابن المبارك اختار شيخ الإسلام ابن تيمية وابن الصلاح الشافعي . قال شيخ الإسلام ابن تيمية - قدس الله روحه - بعد أن ذكر الروايتين في المسألة : فكل مظلمة في العرض من اغتياب صادق وبهت كاذب ؛ فهو في معنى القذف قد يكون صادقا فيكون غيبة ، وقد يكون كاذبا فيكون بهتا ، قال : واختار أصحابنا أنه لا يعلمه ، بل يدعو له دعاء يكون إحسانا إليه في مقابلة مظلمته ، فإن تضرر الإنسان بما علمه من شتمه أبلغ من تضرره بما لا يعلم ، ثم قد يكون الإعلام سبب العدوان على الظالم أولا ، إذ النفوس لا تقف غالبا عند العدل والإنصاف ، وأيضا فيه زوال ما كان بينهما من كمال الألفة والمحبة ، أو تجدد القطيعة والبغضة ، والله - تعالى - أمر بالجماعة ونهى عن الفرقة . فعلى هذا لو سأل المقذوف والمسبوب قاذفه هل فعل ذلك أم لا ؛ لم يجب عليه الاعتراف على الصحيح من الروايتين ، إذ توبته صحت في حق الله - تعالى - بالندم ، وفي حق العبد بالإحسان إليه بالاستغفار ونحوه . وهل يجوز الاعتراف ، أو يستحب ، أو يكره ، أو يحرم ؟ الأشبه أن ذلك يختلف باختلاف الأحوال . وعلى هذا لو استحلف على ذلك جاز له أن يحلف ويعرض ; لأنه مظلوم بالاستحلاف ، فإذا كان تاب وصحت توبته لم يبق لذلك عليه حق ، فلا تجب اليمين عليه . قال شيخ الإسلام ابن تيمية - طيب الله ثراه - : قد سئلت عن نظير هذه المسألة ، وهو رجل تعرض لامرأة غيره فزنى بها ، ثم تاب من ذلك وسأله زوجها عن ذلك فأنكر ، فطلب استحلافه ، فإن حلف على نفي الفعل كانت يمينه غموسا ، وإن لم يحلف قويت التهمة ، وإن أقر جرى عليه وعليها من الشر أمر عظيم ، قال : فأفتيته أن يضم إلى التوبة فيما بينه وبين الله - تعالى - الإحسان إلى الزوج بالدعاء والاستغفار أو الصدقة عنه ، ونحو ذلك مما يكون بإزاء إيذائه له في أهله ، فإن الزنا بها تعلق به حق الله - تعالى ، وحق زوجها من جنس حقه في عرضه ، وليس هو مما يجبر بالمثل كالدماء والأموال ، بل هو من جنس [ ص: 387 ] القذف الذي جزاؤه من غير جنسه ، فتكون توبة هذا كتوبة القاذف ، وتعريضه كتعريضه ، وحلفه على التعريض كحلفه . وأما لو ظلمه في دم ، أو مال فلا بد من إيفاء الحق ، فإن له بدلا ، وقد نص الإمام أحمد - رضي الله عنه - على الفرق بين توبة القاتل وتوبة القاذف . قال العلامة ابن مفلح : وفي هذا خلاص عظيم وتفريج كربات النفوس من آثار المعاصي ، والمظالم ، فإن الفقيه كل الفقيه الذي لا يؤيس الناس من رحمة الله - عز وجل - ولا يجرئهم على معاصيه ، وجميع النفوس لا بد أن تذنب ، فتعريف النفوس ما يخلصها من الذنوب ؛ من التوبة ، والحسنات الماحيات ، كالكفارات ، والعقوبات من أعظم فوائد الشريعة ، وبالله التوفيق .

التالي السابق


الخدمات العلمية