الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

لوامع الأنوار البهية وسواطع الأسرار الأثرية

السفاريني - محمد بن أحمد بن سالم السفاريني

صفحة جزء
( ( ومن ) ) أي أي امرئ مذنب ( ( يمت ) ) أي يدركه الموت وهو مصر على ذنوبه ومنهمك في شهواته ( ( ولم يتب من الخطأ ) ) الذي ارتكبه ، والإثم الذي اكتسبه ؛ لم نحكم عليه بالكفر ، كما زعمت الخوارج ، ولم نقل بأنه خرج من الإسلام بارتكابه كبائر الآثام ، ولم يدخل في الكفر ، بل هو في منزلة بين منزلتي الكفر والإسلام كما زعمت المعتزلة ، ولا نحكم عليه بالخلود في النار ، بل ولا بدخولها ، بل نقول في من مات مصرا على كبائر الذنوب والخطايا ( ( فأمره ) ) الذي يئول إليه ( ( مفوض ) ) أي موكول ومردود ( ( لذي ) ) أي صاحب ( ( العطا ) ) الواسع ، والكرم والجود والنعم . والعطا - ويمد - النوال ، وفي الأسماء الحسنى المعطي أي يعطي من يريد ما يريد ، ومن ثم قال ( ( فإن يشأ ) ) - سبحانه وتعالى - ( ( يعف ) ) أي يتجاوز عمن مات مرتكبا لذنوبه ولم يتب منها ، والعفو هو التجاوز عن الذنب وترك العقاب عليه ، وأصله المحو وذهاب الأثر ، وفي الأسماء الحسنى العفو ، هو فعول ، من العفو الذي هو التجاوز ( ( وإن شاء انتقم ) ) منه ، فإن عامله بالفضل عفا وأنعم ، وإن عامله بالعدل انتقم وآلم ، والانتقام أن يبلغ في العقوبة حدها ، وفي الأسماء الحسنى المنتقم ، وهو المبالغ في العقوبة لمن يشاء ، وهو مفتعل ، من نقم ينقم إذا بلغت به الكراهة حد السخط ( ( وإن يشأ أعطى ) ) النوال السهل ( ( وأجزل ) ) أي أكثر وأعظم لهم ( ( النعم ) ) بكسر النون المشددة وفتح العين المهملة ، جمع نعمة بكسر النون وسكون العين المهملة ، والاسم بالفتح ، قال في القاموس : النعمة بالكسر [ ص: 388 ] المسرة واليد البيضاء الصالحة ، كالنعمى بالضم ، والنعماء بالفتح ممدودة ، والجمع أنعم ونعم ونعمات بكسرتين وبفتح العين ، ونعيم الله عطيته . قال الإمام المحقق ابن القيم في كتابه الجيوش الإسلامية : النعمة نعمتان : نعمة مطلقة ، ونعمة مقيدة ، فالنعمة المطلقة هي المتصلة بسعادة الأبد ، وهي نعمة الإسلام ، وهي التي أمرنا الله - سبحانه وتعالى - أن نسأله في صلاتنا أن يهدينا إلى صراط أهلها ، ومن خصهم بها وجعلهم أهل الرفيق الأعلى حيث يقول : ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا فهؤلاء الأصناف الأربعة هم أهل هذه النعمة المطلقة ، وهم المعنيون بقوله - تعالى - : اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا ، وإذا قيل ليس لله على الكافر نعمة بهذا الاعتبار فهو صحيح ، والنعمة الثانية هي النعمة المقيدة ، كنعمة الصحة ، والغنى ، وعافية الجسد ، وبسط الجاه وكثرة الولد ، والزوجة الحسنة ، وأمثال ذلك ، فهذه مشتركة بين البر والفاجر ، والمؤمن والكافر ، وإذا قيل : لله على الكافر نعمة ؛ بهذا الاعتبار فهو حق ، فلا يصح إطلاق السلب ولا الإيجاب إلا على وجه واحد ، وهو أن النعم المقيدة لما كانت استدراجا للكافر ، ومآلها إلى العذاب والشقاء ، فكأنها لم تكن نعمة ، وإنما كانت بلية كما سماها الله - تعالى - في كتابه كذلك ، فقال : فأما الإنسان إذا ما ابتلاه ربه فأكرمه ونعمه الآيتين ; ولهذا قال كلا أي ليس كل من أكرمته في الدنيا ونعمته فيها قد أنعمت عليه ، وإنما ذلك ابتلاء مني واختبار ، ولا كل من قدرت عليه رزقه فجعلته بقدر حاجته من غير فضلة أكون قد أهنته ، بل أبتلي عبدي بالنعم كما أبتليه بالمصائب .

والحاصل أن مذهب أهل الحق من أهل السنة والجماعة أن من مات مذنبا ، ولو مصرا على كبائر الذنوب ولم يتب منها لعلام الغيوب ؛ لم نقطع له بخروج من الدين ، بل نثبت أنه من المؤمنين ولم نقطع له بدخول النار بل نفوض أمره إلى الحليم الغفار ، فإن شاء عذبه غير أنه لا يخلده في النار ، وإن شاء عفا عنه ابتداء ، إما بشفاعة مقبولة ، أو بدعوة صالح ، أو بمصيبة ؛ من تشديد عند الموت ، أو غيره من مصائب البرزخ ، والصدقة عند الموت ، والأعمال الصالحة [ ص: 389 ] التي يهديها غيره له ، أو يرحمه أرحم الراحمين ونحو ذلك ، وإن شاء رفع عنه العذاب وأجزل له الثواب ورفع له الدرجات ، وبدل الله سيئاته حسنات .

التالي السابق


الخدمات العلمية