[ ص: 333 ] ومما كان من الأحداث أيام ملوك الطوائف
مدينة أنطاكية ، وكانوا من إرسال الله تعالى الرسل الثلاثة إلى الحواريين أصحاب المسيح ، وأرسل أولا اثنين ، وقد اختلف في أسمائهما ، فقدما أنطاكية فرأيا عندها شيخا يرعى غنما ، وهو حبيب النجار ، فسلما عليه ، فقال : من أنتما ؟ قالا : رسولا عيسى ندعوكم إلى عبادة الله تعالى . قال : معكما آية ؟ قالا : نعم ، نحن نشفي المرضى ونبرئ الأكمه والأبرص بإذن الله . قال حبيب إن لي ابنا مريضا منذ سنين ، وأتى بهما منزله ، فمسحا ابنه ، فقام في الوقت صحيحا ، ففشا الخبر في المدينة ، وشفى الله على أيديهما كثيرا من المرضى ، وكان لهم ملك اسمه أنطيخس يعبد الأصنام ، فبلغ إليه خبرهما ، فدعاهما ، فقال : من أنتما ؟ قالا : رسل عيسى ندعوك إلى الله تعالى . قال : فما آيتكما ؟ قالا : نبرئ الأكمه والأبرص ونشفي المرضى بإذن الله . فقال : قوما حتى ننظر في أمركما ، فقاما ، فضربهما العامة .
وقيل : إنهما قدما المدينة فبقيا مدة لا يصلان إلى الملك ، فخرج الملك يوما ، فكبرا وذكرا الله ، فغضب وحبسهما وجلد كل واحد منهما مائة جلدة ، فلما كذبا وضربا بعث المسيح شمعون رأس الحواريين لينصرهما ، فدخل البلد متنكرا وعاشر حاشية الملك ، فرفعوا خبره إلى الملك ، فأحضره ورضي عشرته وأنس به وأكرمه ، فقال له يوما : أيها الملك بلغني أنك حبست رجلين في السجن وضربتهما حين دعواك إلى دينهما فهل كلمتهما وسمعت قولهما ؟ فقال الملك : حال الغضب بيني وبين ذلك . قال : فإن رأى الملك أن يحضرهما حتى نسمع كلامهما ، فدعاهما الملك ، فقال لهما شمعون : من أرسلكما ؟ قالا : الله الذي خلق كل شيء ولا شريك له . قال : فوصفاه وأوجزا . قالا : إنه يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد . قال شمعون : فما آيتكما ؟ قالا : ما تتمناه .
[ ص: 334 ] فأمر الملك ، فجيء بغلام مطموس العينين موضعهما كاللحمة ، فما زالا يدعوان ربهما حتى انشق موضع البصر ، وأخذا بندقتين من الطين فوضعاهما في حدقتيه فصارتا مقلتين يبصر بهما . فعجب الملك لذلك فقال : إن قدر إلهكما الذي تعبدانه على إحياء ميت آمنا به وبكما . قالا : إن إلهنا قادر على كل شيء . فقال الملك : إن هاهنا ميتا منذ سبعة أيام فلم ندفنه حتى يرجع أبوه وهو غائب ، فأحضر الميت وقد تغيرت ريحه ، فدعوا الله تعالى علانية وشمعون يدعو سرا ، فقام الميت فقال لقومه : إني مت مشركا وأدخلت في أودية من النار وأنا أحذركم ما أنتم فيه . ثم قال : فتحت أبواب السماء فنظرت فرأيت شابا حسن الوجه يشفع لهؤلاء الثلاثة . فقال الملك : ومن هم ؟ فقال : هذا ، وأومأ إلى شمعون ، وهذان ، وأشار إليهما ، فعجب الملك ، فحينئذ دعا شمعون الملك إلى دينه ، فآمن قومه ، وكان الملك فيمن آمن وكفر آخرون . وقيل : بل كفر الملك وأجمع هو وقومه على قتل الرسل ، فبلغ ذلك حبيبا النجار ، وهو على باب المدينة ، فجاء يسعى إليهم فيذكرهم ويدعوهم إلى طاعة الله وطاعة المرسلين ، فذلك قوله تعالى : ( إذ أرسلنا إليهم اثنين فكذبوهما فعززنا بثالث ) ، وهو شمعون ، فأضاف الله تعالى الإرسال إلى نفسه ، وإنما أرسلهم المسيح لأنه أرسلهم بإذن الله تعالى .
فلما كذبهم أهل المدينة ، حبس الله عنهم المطر ، فقال أهلها للرسل : ( إنا تطيرنا بكم لئن لم تنتهوا لنرجمنكم وليمسنكم منا عذاب أليم ) ، فلما حضر حبيب ، وكان مؤمنا يكتم إيمانه ، وكان يجمع كسبه كل يوم وينفق على عياله نصفه ويتصدق بنصفه ، فقال : ( ياقوم اتبعوا المرسلين ) . فقال قومه : وأنت مخالف لربنا ومؤمن بإله هؤلاء ؟ فقال : ( وما لي لا أعبد الذي فطرني وإليه ترجعون ) ، فلما قال ذلك قتلوه ، فأوجب الله له الجنة ، فذلك قوله تعالى : ( قيل ادخل الجنة قال ياليت قومي يعلمون بما غفر لي ربي وجعلني من المكرمين ) [ ص: 335 ] وأرسل الله عليهم صيحة فماتوا .