ذكر جرادة ونكاحها ، وعبادة الصنم في داره ، وأخذ خاتمه ، وعوده إليه غزوته أبا زوجته
قيل : سمع سليمان بملك في جزيرة من جزائر البحر وشدة ملكه ، وعظم شأنه ، ولم يكن للناس إليه سبيل ، فخرج سليمان إلى تلك الجزيرة وحملته الريح حتى نزل بجنوده بها فقتل ملكها وغنم ما فيها وغنم بنتا للملك لم ير الناس مثلها حسنا وجمالا فاصطفاها لنفسه ودعاها للإسلام ، فأسلمت على قلة رغبة فيه ، وأحبها حبا شديدا ، وكانت لا يذهب حزنها ولا تزال تبكي ، فقال لها : ويحك ما هذا الحزن ، والدمع الذي لا يرقأ ؟ قالت : إني أذكر أبي وملكه وما أصابه فيحزنني ذلك . قال : فقد أبدلك الله ملكا خيرا من ملكه وهداك إلى الإسلام . قالت : إنه كذلك ولكني إذا ذكرته أصابني ما ترى ، فلو أمرت الشياطين فصوروا صورته في داري أراها بكرة وعشية لرجوت أن يذهب ذلك حزني .
[ ص: 208 ] فأمر الشياطين فعملوا لها مثل صورته لا تنكر منها شيئا ، وألبستها ثيابا مثل ثياب أبيها ، وكانت إذا خرج سليمان من دارها تغدو عليه في جواريها فتسجد له ويسجدن معها ، وتروح عشية ويرحن ، فتفعل مثل ذلك ، ولا يعلمسليمان بشيء من أمرها أربعين صباحا .
وبلغ الخبر آصف بن برخيا ، وكان صديقا ، وكان لا يرد من منازل سليمان أي وقت أراد من ليل أو نهار سواء كان سليمان حاضرا أو غائبا . فأتاه ، فقال : يا نبي الله قد كبر سني ودق عظمي ، وقد حان مني ذهاب عمري وقد أحببت أن أقوم مقاما أذكر فيه أنبياء الله وأثني عليهم بعلمي فيهم ، وأعلم الناس بعض ما يجهلون . قال : افعل . فجمع له سليمان الناس ، فقام آصف خطيبا فيهم فذكر من مضى من الأنبياء وأثنى عليهم حتى انتهى إلى سليمان ، فقال : ما كان أحلمك في صغرك ، وأبعدك من كل ما يكره في صغرك . ثم انصرف .
فملئ سليمان غضبا ، فأرسل إليه وقال له : يا آصف لما ذكرتني جعلت تثني علي في صغري وسكت عما سوى ذلك ، فما الذي أحدثت في آخر أمري ؟ قال : إن غير الله ليعبد في دارك أربعين يوما في هوى امرأة . قال إنا لله وإنا إليه راجعون لقد علمت أنك ما قلت إلا عن شيء بلغك ، ودخل داره وكسر الصنم وعاقب تلك المرأة وجواريها . ثم أمر بثياب الطهارة فأتي بها ، وهي ثياب تغزلها الأبكار اللائي لم يحضن ولم تمسها امرأة ذات دم ، فلبسها وخرج إلى الصحراء ، وفرش الرماد ، ثم أقبل تائبا إلى الله وتمعك في الرماد بثيابه تذللا لله تعالى وتضرعا ، وبكى واستغفر يومه ذلك ثم عاد إلى داره .
وكانت أم ولد له لا يثق إلا بها يسلم خاتمه إليها ، وكان لا ينزعه إلا عند دخوله الخلاء ، وإذا أراد يصيب امرأة فيسلمه إليها حتى يتطهر ، وكان ملكه في خاتمه ، فدخل في بعض تلك الأيام الخلاء وسلم خاتمه إليها ، فأتاها شيطان اسمه صخر في صورة سليمان فأخذ الخاتم وخرج إلى كرسي سليمان ، وهو في صورة سليمان ، فجلس عليه ، وعكفت عليه الإنس والجن والطير . وخرج سليمان وقد تغيرت حالته وهيئته ، فقال : خاتمي ! قالت : ومن أنت ؟ قال : أنا سليمان . قالت : كذبت لست [ ص: 209 ] بسليمان ! قد جاء سليمان وأخذ خاتمه مني وهو جالس على سريره ! فعرف سليمان خطيئته فخرج وجعل يقول لبني إسرائيل : أنا سليمان ، فيحثون عليه التراب ، فلما رأى ذلك قصد البحر وجعل ينقل سمك الصيادين ويعطونه كل يوم سمكتين يبيع إحداهما بخبز ويأكل الأخرى ، فبقي كذلك أربعين يوما .
ثم إن آصف وعظماء بني إسرائيل أنكروا حكم الشيطان المشتبه بسليمان ، فقال آصف : يا بني إسرائيل ، هل رأيتم من اختلاف حكم سليمان ما رأيت ؟ قالوا : نعم . قال : أمهلوني حتى أدخل على نسائه وأسألهن هل أنكرن ما أنكرنا منه . فدخل عليهن وسألهن ، فذكرن أشد مما عنده ، فقال : إنا لله وإنا إليه راجعون ، إن هذا لهو البلاء المبين .
ثم خرج إلى بني إسرائيل فأخبرهم ، فلما رأى الشيطان أنهم قد علموا به طار من مجلسه فمر بالبحر فألقى الخاتم فيه ، فبلعته سمكة ، واصطادها صياد ، وحمل له سليمان يومه ذلك فأعطاه سمكتين ، تلك السمكة إحداهما . فأخذها فشقها ليصلحها ، ويأكلها فرأى خاتمه في جوفها ، فأخذه وجعله في إصبعه وخر لله ساجدا ، وعكفت عليه الإنس والجن والطير ، وأقبل عليه الناس ورجع إلى ملكه ، وأظهر التوبة من ذنبه ، وبث الشياطين في إحضار صخر الذي أخذ الخاتم ، فأحضروه ، فثقب له صخرة ، وجعله فيها وسد النقب بالحديد والرصاص ، وألقاه في البحر .
وكان مقامه في الملك أربعين يوما ، بمقدار عبادة الصنم في دار سليمان .
وقيل : كان السبب في ذهاب ملكه أن امرأة له كانت أبر نسائه عنده تسمى جرادة ولا يأتمن على خاتمه سواها ، فقالت له : إن أخي بينه وبين فلان حكومة ، وأنا أحب أن تقضي له . فقال : أفعل ، ولم يفعل ، فابتلي ، وأعطاها خاتمه ، ودخل الخلاء ، فخرج الشيطان في صورته فأخذه ، وخرج سليمان بعده فطلب الخاتم ، فقالت : ألم تأخذه ؟ قال : لا ، وخرج من مكانه تائها وبقي الشيطان أربعين يوما يحكم بين الناس ، ففطنوا له وأحدقوا به ونشروا التوراة فقرءوها ، فطار من بين أيديهم ، وألقى الخاتم في البحر ، فابتلعه حوت ، ثم إن سليمان قصد صيادا وهو جائع فاستطعمه ، وقال : أنا سليمان ، فكذبه ، وضربه فشجه ، فجعل يغسل الدم ، فلام الصيادون صاحبهم ، وأعطوه سمكتين [ ص: 210 ] إحداهما التي ابتلعت الخاتم ، فشق بطنها ، وأخذ الخاتم ، فرد الله إليه ملكه ، فاعتذروا إليه ، فقال : لا أحمدكم على عذركم ولا ألومكم على ما كان منكم .
وسخر الله له الجن والشياطين والريح ، ولم يكن سخرها له قبل ذلك ، وهو أشبه بظاهر القرآن ، وهو قوله تعالى : قال رب اغفر لي وهب لي ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي إنك أنت الوهاب فسخرنا له الريح تجري بأمره رخاء حيث أصاب والشياطين كل بناء وغواص وآخرين مقرنين في الأصفاد .
وقيل في سبب زوال ملكه غير ذلك ، والله أعلم .