النداء المكرر دليل واللجأ إلى الله تعالى، التضرع إنك تعلم ما نخفي وما نعلن : تعلم السر كما تعلم العلن علما لا تفاوت فيه، لأن غيبا من الغيوب لا يحتجب عنك، [ ص: 387 ] والمعنى: أنك أعلم بأحوالنا وما يصلحنا وما يفسدنا منا، وأنت أرحم بنا وأنصح لنا منا بأنفسنا ولها، فلا حاجة إلى الدعاء والطلب، وإنما ندعوك إظهارا للعبودية لك، وتخشعا لعظمتك، وتذللا لعزتك، وافتقارا إلى ما عندك، واستعجالا لنيل أياديك، وولها إلى رحمتك، وكما يتملق العبد بين يدي سيده، رغبة في إصابة معروفه، مع توفر السيد على حسن الملكة، وعن بعضهم: أنه رفع حاجته إلى كريم فأبطأ عليه النجح، فأراد أن يذكره فقال: مثلك لا يذكر استقصارا ولا توهما للغفلة عن جواب السائلين، ولكن ذا الحاجة لا تدعه حاجته ألا يتكلم فيها، وقيل: ما تخفي من الوجد لما وقع بيننا من الفرقة، وما نعلن من البكاء والدعاء، وقيل: ما نخفي من كآبة الافتراق، وما نعلن: يريد ما جرى بينه وبين هاجر حين قالت له عند الوداع: إلى من تكلنا؟ قال: إلى الله أكلكم، قالت: آلله أمرك بهذا ؟ قال: نعم، قالت: إذن لا نخشى، تركتنا إلى كاف، وما يخفى على الله من شيء : من كلام الله -عز وجل- تصديقا لإبراهيم -عليه السلام-، كقوله: وكذلك يفعلون [النمل: 34]، أو من كلام إبراهيم، يعني: وما يخفي على الله الذي هو عالم الغيب من شيء في كل مكان، و"من": للاستغراق، كأنه قيل: وما يخفي عليه شيء ما، "على" في قوله: على الكبر بمعنى: "مع" كقوله [من المنسرح]:
إني على ما ترين من كبري ... أعلم من حيث تؤكل الكتف
وهو في موضع الحال، معناه: وهب لي وأنا كبير وفي حال الكبر، روي أن إسماعيل ولد له وهو ابن تسع وتسعين سنة، وولد له إسحاق وهو ابن مائة وثنتي عشرة سنة، وقد روي أنه ولد له إسماعيل لأربع وستين، وإسحاق لتسعين، وعن : لم يولد سعيد بن جبير لإبراهيم إلا بعد مائة وسبع عشرة سنة، وإنما ذكر حال الكبر; لأن المنة بهبة الولد فيها أعظم، من حيث إنها حال وقوع اليأس من الولادة، والظفر بالحاجة على عقب اليأس من أجل النعم وأحلاها في نفس الظافر، ولأن الولادة في تلك السن العالية كانت آية لإبراهيم، إن ربي لسميع الدعاء : كان قد دعا ربه وسأله الولد، فقال: رب هب لي من الصالحين، فشكر لله ما أكرمه به من إجابته. [ ص: 388 ] فإن قلت: الله تعالى يسمع كل دعاء، أجابه أو لم يجبه.
قلت: هو من قولك: سمع الملك كلام فلان إذا اعتد به وقبله ومنه: سمع الله لمن حمده وفي الحديث، "ما أذن الله لشيء كإذنه لنبي يتغنى بالقرآن".
فإن قلت: ما هذه الإضافة إضافة السميع إلى الدعاء ؟
قلت: إضافة الصفة إلى مفعولها، وأصله: لسميع الدعاء، وقد ذكر فعيلا في جملة أبنية المبالغة العاملة عمل الفعل، كقولك: هذا ضروب زيدا، وضراب أخاه، ومنحار إبله، وحذر أمورا، ورحيم أباه، ويجوز أن يكون من إضافة فعيل إلى فاعله، ويجعل دعاء الله سميعا على الإسناد المجازي، والمراد: سماع الله. سيبويه